يشهد المجتمع المصرى صراعاً حاداً حول مستقبل الدولة المصرية، فهناك من يدعو إلى إقامة دولة مدنية ديمقراطية حديثة، تتوافق قيمها ومؤسساتها وآلياتها مع أحدث ما أنتجته البشرية من فكر وخبرة، وهناك من يدعو إلى إقامة دولة أشبه بدولة ولاية الفقيه كما كان يجسدها دستور 2012 الذى صاغته لجنة أغلبيتها من تيار الإسلام السياسى، رفضت أن يرد أى ذكر فى هذا الدستور لمواثيق حقوق الإنسان العالمية التى وقعت عليها مصر باعتبارها مرجعية للحقوق والحريات فى الدستور، لأنهم يرون أن هذه المواثيق تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية. ويدور هذا الصراع أساساً حول الهوية ومن نحن، هل نحن جماعة تنتمى إلى الأصولية الإسلامية التى حدد معالمها وأبعادها السلف الصالح أم نحن جماعة عصرية تحترم تنوع الأديان وتأخذ بأسباب التقدم كما صاغتها البشرية فى صراعها الطويل مع الطبيعة والسيطرة عليها لمصلحة الإنسان المصرى والأجيال القادمة.
يطرح الصراع حول هوية المجتمع المصرى وطبيعة الدولة التى نقيمها قضية الآخر فى علاقته بالأنا. وهى قضية بالغة التعقيد، ولها تجليات متنوعة، حيث يمكن النظر إلى الآخر من زاوية فلسفية تعنى كل ما هو غير النفس المستقلة، تعنى كل ما هو غير نفسى أنا، والنفس هنا قد تعنى فرداً أو جماعة صغيرة أو جماعة كبيرة. ويأتى التفسير الشخصى لمعنى الآخر من صلب تعريف وتكوين الذات أو النفس، حيث تتحدد الفروق النسبية بين النفس والكيان الآخر فى ضوء فهم النفس لذاتها ومحدداتها. ويتحدد مفهوم الآخر فى الجانب الفكرى والثقافى بوجه خاص، بوصفه المفهوم الذى يشير بصفة أساسية إلى الاختلافات الفكرية والثقافية بين الأفراد أو المجموعات الصغيرة أو الكبيرة، وقد تكون هذه الاختلافات بلون سياسى أو اقتصادى أو اجتماعى.
تختلف النظرة إلى الآخر باختلاف الزمان والمكان، فهى نظرة نسبية يترتب عليها موقف نسبى متغير، فهناك صور متعددة للنظرة إلى الآخر منها أن أنظر إلى الآخر باعتباره كل ما ليس أنا، أو ليس نحن؛ فهناك تعارض كامل بيننا، أو قد أنظر إلى الآخر دون أن أتعارض معه بل قد يصل الأمر إلى التماهى فى الآخر إعجاباً به كما حدث مثلاً من الرئيس التونسى الحبيب بورقيبة الذى تماهى مع الثقافة الفرنسية وقيمها الأساسية فأعاد صياغة الأسس التى تحكم المجتمع التونسى على مثالها وأصدر العديد من القوانين التى تعلى من شأن القيم الفرنسية فى المجتمع التونسى وتعتبر معالجته لقضايا المرأة فى تونس مثالاً واضحاً لذلك. وهناك صورة ثالثة لرؤية الآخر والنظر إليه وفق صورة نمطية تتسم بنزع الطابع الإنسانى عن هذا الآخر، ونوع من التنميط القائم على الاختزال والتضخيم والتحيز والتعميم، وعادة ما تشتق هذه الصورة من أفعال وتصرفات هذا الآخر وإدراكات المتلقى. ومن الأمثلة الواضحة أن الموقف من الآخر نسبى ومتغير مثال الشيخ الأزهرى رفاعة الطهطاوى من الحضارة الغربية كما عاشها فى فرنسا فى أوائل القرن التاسع عشر وبين رؤية تيار الإسلام السياسى فى القرن الحادى والعشرين لهذه الحضارة. فقد اتخذ منها رفاعة الطهطاوى موقفاً إيجابياً وانشغل بدراسة أسباب التقدم فى الغرب وبحث فى القيم الأساسية التى تكمن خلفها وأدرك أهمية الديمقراطية والتعليم والموقف من المرأة ودور وسائل الإعلام، وعاد إلى مصر ليؤسس المدرسة المصرية الحديثة ويؤسس مدارس للبنات ويقول إن عفة المرأة فى تعليمها وعملها، ويؤسس مدرسة الألسن ويصدر صحيفة الوقائع المصرية. وعلى العكس من هذا ينظر تيار الإسلام السياسى الآن إلى الحضارة الغربية فلا يرى فيها إلا الانحلال وزواج المثليين ومخالفة الشريعة الإسلامية، متجاهلاً طابعها الديمقراطى وتقدمها الاقتصادى وتفوقها العلمى.
وقد وصل صراع الهوية فى مصر إلى درجة خطيرة عندما انتقل إلى العنف فى المواجهة وتكوين صورة نمطية سلبية عن الآخر، حيث يرى الإسلاميون أن خصومهم علمانيون بمعنى إنكار الدين، بينما يرى قطاع من القوى المدنية أن تيار الإسلام السياسى إرهابى متخلف. ولن نخرج من المأزق الحالى لمصر إلا من خلال نظرة موضوعية لكل من الطرفين تنطلق من الواقع وتغلب المصالح العليا للشعب المصرى.