الحصاد الهزيل..
فى الوقت الذى خذلت فيه السينما الروائية المقاتل المصرى، ولعبت، من فرط حماقة صانعيها، دوراً مضاداً يكاد ينفِّر المواطنين من المشاركة فى تأدية الواجب الوطنى، واختارت أن تكون نهايات أفلامها قاتمة حزينة، ومصائر أبطالها من الضباط والجنود بائسة تعِسة، فهم إما جرحى ومصابون، أو معاقون.. ودائماً موتى! وهى رؤية سلبية وانهزامية إلى حد كبير، وقد تحمل فى جانب منها دعوة مستترة إلى الإذعان والاستسلام وتفادى الحرب حتى لو كانت لتحرير الأرض.. وهو ما لم تسقط فيه السينما التسجيلية وحاولت رغم ضعف إمكاناتها أن تتصدى لشرف المهمة، وإن ناءت -لأسباب متعددة- بما حملت! فقد ظل دور التوثيق السينمائى شاحبا فى ذهن العسكرية المصرية، ربما لدواعى الأمن.
لم يتح للسينمائيين التسجيليين فرصة الوجود فى الساعات الأولى من اندلاع القتال وتعثرت محاولاتهم فى اللحاق بزملائهم المقاتلين على الجبهة بسبب الإجراءات الأمنية المشددة، وحين اخترق البعض ذلك الحاجز، كانت الحرب قد دخلت يومها الثالث، لذا لم يستطع السينمائيون التسجيليون رصد وتصوير لحظات اقتحام المانع وسحق خط بارليف ومتابعة الملحمة الرائعة للقتال المتلاحم من خندق إلى خندق.. وربما لو تم ذلك لأصبح لدينا أعظم وثيقة فى تاريخ مصر المعاصر، وللأسف، جاء حصاد ما تم اللحاق به قليلا لا يعطى الملامح الحقيقية للصورة النادرة التى كانت تدور على أرض المعركة.. بل إنه قد ترددت شائعة عن إعدام بعض المواد التى تم تصويرها بقرار من إدارة الشئون المعنوية فى القوات المسلحة لأنها «تصور الجندى المصرى بشكل لا يتناسب مع النصر الذى تحقق بعبور القناة».
تلاحقت الأفلام الإعلامية التى أُعدّت على عجل للحاق بالمناسبة واعتمد معظمها على التعليق كوسيلة إخبارية، وراح كل مخرج يمدّد زمن فيلمه بالعودة «المطوّلة» إلى هزيمة ١٩٦٧ وحرب الاستنزاف واشتركت هذه الأفلام فى اعتمادها على الإسهاب فى الفكرة والتنفيذ وبدت فى النهاية كأنها فيلم واحد، مكرر، مع إضافة شكلية هنا أو هناك فلا فرق بين «الإرادة» أو «الصمود» أو «الحرب والسلام» و«فى ست ساعات»، وغيرها من الأفلام التى تحمل تلك السمات المشتركة، وإن نجح بعض المخرجين فى تجاوز هذه الصيغة وقدموا سينما تسجيلية مختلفة.
فى المجموعة الأولى «أفلام الدعاية السياسية» تبرز أعمال إدارة الشئون المعنوية التى تتشابه، فهى مجرد تنويعات على مواد أرشيفية وشريط صوتى محتشد بالعبارات الحماسية، وقد يعود ذلك إلى طبيعة هذه الأفلام وفقر المواد الأرشيفية، لكن المدهش أن هذه السمات تتكرر بطريقة كربونية فى شرائط تحمل أسماء مخرجين من كبار مخرجى السينما التسجيلية.
تتألق وسط هذا الزخم من أفلام المناسبة، أربعة أعمال، تتميز بمستواها الفنى الرفيع وبحثها الرصين عن جوهر الإنسان المصرى الثمين، صانع هذا الانتصار، والعودة إلى جذوره الاجتماعية وإعلائها من شأن الفرد وخصوصيته فى إطار المجموع وتأكيدها على أن المجتمع المصرى هو الذى يفرز ويقدم هؤلاء الأبطال.
يأتى «صائد الدبابات» أول أفلام خيرى بشارة كمخرج، كأحد أهم الأعمال التسجيلية التى تناولت الإنسان/ المقاتل المصرى، من خلال شخصية عبدالعاطى -ابن قرية «شيبة قش» بمحافظة الشرقية- الذى اشتهر بأنه صائد الدبابات الذى دمّر -وحده- ٢٣ دبابة إسرائيلية أثناء المعارك، ويرسم بشارة صورة إنسانية له، ولزملائه الذين يرون أنهم «لم يفعلوا غير الواجب»، و«شيبة قش» مثل «ملاحى الصعيد» بالفيوم، قرية الشهيد فتحى عبادة الذى قدمه أحمد راشد فى فيلمه البديع «أبطال من مصر»، لؤلؤة أفلام أكتوبر التسجيلية، حيث تكمن قيمته ليس فى اكتمال جوانبه الفنية فحسب، بل فى كم الصدق الذى يتخلل العمل، وينتشر فى أرجائه، ويتجسد على الشاشة بسيطاً متألقاً..
فى «مسافر إلى الشمال.. مسافر إلى الجنوب» يتابع سمير عوف رحلة شابين تخرجا فى كلية الهندسة عام ١٩٧٢ وكلاهما من مواليد ١٩٤٨ -عام ضياع فلسطين- وهما من الجيل الذى ولد مع النكبة.. واكتوى بالنكسة، وحقق الانتصار.. الجيل الذى يصنع الحاضر ويخطط للمستقبل.
يختار سمير عوف لكل منهما ميداناً للقتال، الأول يسافر إلى الجنوب يحمى آثارنا العريقة فى «فيلة».. والآخر نحو الشمال يدافع عن حاضرنا فى جبهة القناة.. الأول يشرف على تركيب السواتر التى تنقذ المعابد.. والثانى يشرف على تنفيذ وتركيب المعابر.. نموذجان يمزجان فى يسر وسلاسة، من خلال بناء فنى شعرى راق، بين الأصالة والمعاصرة.. على نحو فريد.
يمد شادى عبدالسلام خيوط الماضى فى «جيوش الشمس» اسم جيش مصر الفرعونى، إلى الحاضر، إلى أبناء أكتوبر.. ويعلو على اللحظة مجسداً فى بلاغة فنية عودة جيوش الشمس إلى مقرها القديم فى سيناء. تنقطع صلة التسجيليين بأحداث أكتوبر بعد عام ١٩٧٧، وكأن صوت القدر أمر مبدعيها بعدم الاقتراب من نارها المتوهجة بعد زيارة السادات، المشئومة، للقدس وإبرام معاهدة كامب ديفيد، وإذا كانت «السياسة فى حرب أكتوبر خذلت السلاح» كما يصفها محمد حسنين هيكل، فإن السينما الرديئة قد خذلته أيضاً، فجاء الحصاد هزيلاً شاحباً لا يليق بتلك الأيام الجليلة!