فى بدايات الجمهورية السلطوية التى أسست لها ثورة 1952، انقلب جمال عبدالناصر على الأحزاب وأخرجها من الحياة السياسية وأيدته فى هذا جماعة الإخوان المسلمين؛ ظناً منها أن تحالفها مع الضباط الأحرار لن يهتز. ثم كان أن اختلف ناصر والجماعة، وجاء دورها فى التعرض للقمع الذى استمر طوال الخمسينات والستينات. وفى السبعينات جدد السادات ذات الممارسة بتوظيف التيارات الإسلامية للتغلب على سطوة اليسار فى الجامعات والصحافة والنقابات، ثم انقلب على الإسلاميين ما أن اتسعت مساحات فعلهم السياسى. وخلال عقود الرئيس السابق الثلاثة تم قمع الإسلاميين على فترات، وحدثت انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان بين صفوفهم دون أن تعترض الأحزاب الليبرالية واليسارية، التى بدت وكأنها تؤيد القمع خوفاً من تغول التيار الإسلامى. والحصيلة كانت تراكم الشكوك المتبادلة بين الإسلاميين من جهة والآخرين من جهة ثانية، وذلك من جراء المعايير المزدوجة فى لحظات القمع والمنع وتغليب المصالح السياسية على الدفاع المبدئى عن الحريات.
ذات المعايير المزدوجة ما زالت توجه مواقف الأحزاب والتيارات السياسية إزاء انتهاكات حقوق الإنسان المتكررة فى مصر منذ 11 فبراير 2011. صمت الإخوان وصمتت فصائل إسلامية أخرى عن الانتهاكات التى ارتبطت بأحداث البالون وماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء، لأن الوفاق بينهم وبين المجلس العسكرى كان أكثر أهمية لهم من الانتصار لحقوق الإنسان. وتبدل الحال جذرياً ما أن انتهى الوفاق هذا خلال الأسابيع الأخيرة وعاد الصوت الإسلامى ليرتفع ناقماً على الانتهاكات التى وقعت فى العباسية ومحذراً من سلطوية العسكرى. إلا أن ازدواجية المعايير الواضحة والتعامل السياسى مع الحقوق والحريات تجعل من حملة الإسلاميين اليوم على العسكرى حملة محدودة المصداقية.
وتتهدد اليوم الأحزاب والقوى الليبرالية واليسارية، والتزامها بالدفاع عن الحقوق والحريات فى المجمل الأعم لم يلوث بالسياسة منذ 11 فبراير 2011، نفس الازدواجية بصمتها عن انتهاكات العباسية، إما لأن من بدأ الاحتجاج هناك كانوا جماعات بعيدة عن المعسكر المدنى، أو لكى ترد الصاع للإسلاميين الذين صمتوا طويلاً وزايدوا على العسكرى بخطاب الاستقرار وعجلة الإنتاج وشرعية المؤسسات. وتماماً كما خرجت منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدنى بمسئولية وطنية عن تجاهل اليمين واليسار لقمع مبارك للإسلاميين ودافعت عنهم قانونياً وإعلامياً، خرجت أيضاً الحركات والائتلافات الشبابية المنتمية للمعسكر المدنى بوعى وجرأة عن صمت الأحزاب الليبرالية واليسارية وتضامنت مع متظاهرى ومحتجى العباسية ونددت بالانتهاكات والاعتداءات على الحرية.
لا مجال لتسييس الدفاع عن الحرية والحق، وازدواجية المعايير إزاء انتهاكات حقوق الإنسان نتيجتها الوحيدة هى استمرار الانتهاكات هذه والتبدل المستمر لهوية وانتماء الضحية.