تضع الحرب أوزارها، وينقشع غبار المعارك، ويتراءى لمقاتل أكتوبر الذى حقق معجزة العبور، وروى بدمه ثرى الوطن، حلم العودة إلى وطن ترفرف عليه رايات العدالة والرخاء، ويوفر له سبل العيش الشريف والحياة الكريمة، لكن الحلم تحول إلى كابوس، فكما خذلت السياسة السلاح، خذل الاقتصاد الإنسان المصرى البسيط.. ينقض عليه غيلان الانفتاح يلتهمون رزقه وقوته، ويبدأ عصر السمسرة والاستيراد والتصدير، وتنشأ طبقة طفيلية تتضخم ثرواتها وتتوحش قدراتها، وتزداد مساحات التفاوت الطبقى التى تشكل شرخاً حاداً فى جدار البناء الاجتماعى، ليجد إنسان أكتوبر نفسه وحيداً أعزلَ ومهمشاً.. يتأمل الآخرين، فى حسرة ومرارة، وهم يجنُون حصاد الانتصار الذى دفع فيه أغلى سنوات عمره.
حاولت السينما المصرية -فى جانبها الجاد- أن تعبر عن أشواق وهموم وأحزان جيل أكتوبر الذى دفع الثمن كاملاً وبات من حقه أن يتساءل عمن يستحق أن يحصد ثمار هذا الانتصار، وهو السؤال الذى طرحه بشير الديك وعاطف الطيب فى رائعتهما «سواق الأتوبيس».. يعود «حسن» سائق الأتوبيس من ميدان القتال بعد أن خاض أربعة حروب من حرب اليمن حتى حرب أكتوبر، ليجد أن ورشة والده «المعلم سلطان» مهددة بالضياع.. الورشة هنا معادل موضوعى للقيم النبيلة، ورمز للأصالة، والأرض، والوطن.. والورشة الرمز/ المعنى/ القيمة هى ما دافع عنه حسن ليسرقها الآخرون من السفلة واللصوص أبطال الانفتاح، ولا يجد من يسانده سوى «مجموعة القروانة» (من زملائه مقاتلى أكتوبر) الذين صهرتهم ووحدت بينهم طلقات الرصاص ولحظات الخطر، وحين عادوا فاجأتهم ظروف المجتمع الجديدة، ودفعت بأحدهم إلى الهجرة للعمل فى بلد عربى.. وفرضت على الآخر أن يعمل خادماً فى مطعم رغم مؤهله الجامعى والثالث سائقاً للأتوبيس.. تتكاتف هذه المجموعة لتنقذ الورشة/ التاريخ من أيدى السفهاء وليدفع أفرادها الثمن مرتين، وليُدين الفيلم بقوة ووضوح هؤلاء الذين أطلق عليهم الفيلم «ولاد الكلب».. سرقوا كل شىء، وخربوا ودمروا الورشة.. والبيت والوطن.
«سواق الأتوبيس» (١٩٨٣) أول فيلم يقدم مرثية مبكرة لهذا الجيل، تلاه فيلم «بيت القاضى» (١٩٨٤) لعبدالحى أديب وأحمد السبعاوى، الذى يحاول أن يرسم صورة للواقع الجديد بعد عشر سنوات من الحرب، من خلال مجموعة ثانية من الشباب تقطن منطقة بيت القاضى الشعبية.. ثلاثة أصدقاء عاشوا طفولتهم وصباهم فى تلك المنطقة وقضوا فترة غالية من شبابهم يحملون السلاح دفاعا عن الأرض وأسهموا فى تحقيق النصر، يدفع أحدهم «حسن الأكتع» ذراعه فى المعركة، ويضيع أمله فى تحقيق الحلم الذى بشره به صديقه المحامى الشريف، لتنتهى حياته إلى ميتة مهينة داخل أحد أقسام الشرطة على يد اثنين من البلطجية.. يلخص «حسن» مأساة الجيل وهو يغالب الموت محدثاً صديقه فتحى: «ذنبنا فى رقبتك.. جعلتنا نحلم ونحن على الجبهة ستصبح بلدنا جنة.. الجنة سرقها منّا الهبيشة».. ينحاز «بيت القاضى» بشجاعة إلى جانب جيل أكتوبر وإلى دم الشهداء، ويكشف عن الواقع الجديد الذى أسهم فى هزيمة صنّاع النصر، ويأسى لهؤلاء الذين ضحوا تضحية حقيقية من دون أن يحصلوا فى النهاية على ما يستحقونه.
فى عام ١٩٨٦ يحاول هشام أبوالنصر أن يرصد فى فيلمه «العصابة» رد فعل زيارة السادات للقدس وأثرها على الواقع المصرى من خلال شخصية أحد مقاتلى أكتوبر الذى يعانى من حالة نفسية نتيجة لما لاقاه فى الأسْر على يد زبانية الموساد الإسرائيلى، والشعور بالضياع بعد ما رأى ما آل إليه النصر الذى حارب من أجله، وهو الفيلم المصرى الوحيد الذى تناول زيارة السادات واتفاقية السلام بجرأة غير مسبوقة ولخص رؤيته فى لقطة النهاية التى ركز فيها على العلمين الإسرائيلى والأمريكى مع تطويقهما بعبارة «العصابة كما أراها».
يطرح محمد النجار فى «زمن حاتم زهران» (١٩٨٨)، بحس سياسى صادق ووعى ناضج رؤيته للمجتمع المصرى بعد حرب أكتوبر، ويقدم صورة للمتغيرات والتحولات التى أصابت بنية المجتمع على المستويين الاقتصادى والاجتماعى، ويُحيى ذكرى الشهداء من خلال شخصية يحيى زهران المثقف الحالم بمجتمع الكفاية والعدل، والذى تطوع لأداء الواجب الوطنى مشاركاً فى حرب الاستنزاف والعبور، رغم حقه القانونى فى الإعفاء، ويدفع حياته فداء للوطن، وإن ظل شبحه ومثاليته تؤرق هؤلاء الذين انقضوا على الانتصار يستثمرونه لحسابهم.. يحيى زهران يعلن فى جسارة أن الزمن الجديد زمن شقيقه حاتم زهران قد بدد زمن الشهيد!
عن رواية يوسف القعيد «الحرب فى بر مصر» يقدم صلاح أبوسيف فيلمه «المواطن مصرى».. يضطر الشاب «مصرى» ابن الخفير الفقير عبدالموجود المصرى، تحت ضغط الفقر والقهر، أن يلتحق بالخدمة العسكرية بديلاً عن توفيق ابن العمدة الإقطاعى المتسلط.. يستشهد «مصرى» تحت اسم توفيق.. وحين يعود جثمانه إلى القرية لتكريمه يذهب التكريم والشرف إلى العمدة، فابنه توفيق رسمياً هو الشهيد، ليدفع الأب الحقيقى الخفير الثمن مرتين، ويحصد الحسرة والندم والمرارة، قد سرقوا منه ابنه حياً.. وميتاً! لقد سرقوا النصر حقيقة لا مجازا، يشير إليهم الفيلم بأصبع الإدانة مثلما أدانهم فيلم «أرملة رجل حى» إخراج بركات عام ١٩٨٩ عن مقاتل عائد بعد أن اعتبر مفقودا، ليجد زوجته تُزف إلى رجل آخر باعتبارها أرملة، ولا يجد من يسانده فى محنته سوى زملائه فى أرض المعركة.
على مدى أربعين سنة، توارى صُناع أكتوبر البواسل، خلف غلالة من التجاهل والنسيان، ضاقوا بأنفسهم، وضاقت بهم الحياة.. والدولة، والسينما السائدة، بعد أن سرق السفهاء انتصاراتهم.. ولم يبق لهم إلا الحصاد المر!!