يبدو أننا سوف ننتظر طويلاً قبل أن تتحقق العدالة الانتقالية فى مصر، فقد تصاعدت الأصوات بعد ثورة 25 يناير وبعد أن تأكد أن القوانين القائمة ونظام التقاضى الحالى لن يمكّن من محاسبة الذين أجرموا فى حق الشعب، ولا يوجد مجال فى القوانين القائمة للمحاسبة على الجرائم السياسية، كما أنه لا يمكن من خلال نظام التقاضى الحالى إجراء محاكمات عادلة وناجزة لهؤلاء المجرمين، من هنا كانت الدعوة إلى الأخذ بمفهوم العدالة الانتقالية كما طبقته بصورة ناجحة دولة جنوب أفريقيا. وللعدالة الانتقالية صلة قوية بعملية التحول الديمقراطى، ذلك أنه لا يمكن إرساء مقومات النظام الديمقراطى فى أى بلد ما لم يتم تصفية كل رواسب وبقايا وجرائم النظام السلطوى الذى ننتقل منه إلى الديمقراطية. ويتطلب تطبيق العدالة الانتقالية إصدار قانون خاص يتم بموجبه تحديد الجرائم التى تتم المحاسبة عليها ولا تسعف القوانين القائمة بذلك، وخاصة جرائم اعتقال المعارضين السياسيين، أو قتلهم خارج القانون، وجرائم التعذيب، وكذلك تزوير الانتخابات، واحتكار الحكم، كما يحدد القانون كيفية المحاكمة على هذه الجرائم من خلال محاكم خاصة يتوفر فيها حق الدفاع من خلال محاكمات عادلة وناجزة، ويحدد القانون العقوبات التى تُوقع على مرتكبى هذه الجرائم سواء كانت عقوبات بالسجن أو بالحرمان من مباشرة الحقوق السياسية. ومما يضاعف من مشاكل تطبيق العدالة الانتقالية الآن أننا كنا نتحدث فى البداية عن الجرائم التى ارتُكبت فى حق الشعب قبل ثورة 25 يناير، وقد وقعت بعد الثورة جرائم أخرى ينبغى المحاسبة عليها من خلال العدالة الانتقالية سواء فى ظل حكم المجلس العسكرى أو حكم الإخوان المسلمين برئاسة الدكتور محمد مرسى. والأحداث موضع الجدال بعد 30 يونيو مثل أحداث دار الحرس الجمهورى وفض اعتصامى رابعة والنهضة. وليس من شك أن شمول التحقيقات الجرائم التى ارتُكبت فيما بعد ثورة 25 يناير سيزيد المعارضين لتطبيق العدالة الانتقالية خوفاً من أن تشملهم التحقيقات أو ينالهم العقاب. نحن إذن أمام مشكلة حقيقية تتطلب توافر إرادة سياسية فى أعلى مواقع المسئولية، كما تتطلب توافر القدرة على الضغط من قوى الثورة لوضع هذا المفهوم موضع التطبيق، لأنه ما لم تقتنع دوائر الحكم العليا بأن المحاسبة على الجرائم التى ارتُكبت فى حق الشعب شرط ضرورى لتصفية آثار الماضى، وما لم تتوافر لقوى الثورة القدرة على الضغط من أجل ذلك فإن المسألة ستظل قيد التأجيل ولن تتخذ الإجراءات الكفيلة بتحقيق ذلك.
كان من دواعى التفاؤل بإمكانية وضع العدالة الانتقالية موضع التطبيق إنشاء وزارة للعدالة الانتقالية والحديث عن إنشاء مفوضية للعدالة الانتقالية كهيئة مستقلة تتوافر لها المقومات الكافية للقيام بمسئوليتها بعيداً عن سلطة الدولة وأجهزتها، وفى هذا السياق دعا رئيس الجمهورية إلى لقاء تشاورى حول العدالة الانتقالية شارك فيه ممثلون لفئات المجتمع المختلفة والمفكرون والقيادات السياسية، حيث نوقشت قضية العدالة الانتقالية، وتوافق الحاضرون على أنه من الضرورى معالجة هذه القضية وفق مسار سليم يبدأ بكشف حقائق الجرائم التى ارتُكبت فى حق الشعب وتحديد المسئولية عنها، ثم تأتى المرحلة الثانية وهى مرحلة القصاص بمحاسبة مرتكبى هذه الجرائم وتوقيع العقوبات المكافئة لما ارتكبوه من جرائم، ثم تأتى المرحلة الثالثة وهى ما يسمونه مرحلة المصالحة الوطنية والأرجح أن نسميها تحديد قواعد العيش المشترك فى وطن واحد، قواعد تضمن تنظيم الحياة السياسية فى البلاد على أساس الالتزام بنبذ العنف، والقبول بالمنافسة السياسية السلمية، وانتهاج الحوار سبيلاً للوصول إلى التوافق، والوصول إلى حلول وسط، وتترجم هذه القواعد فى دستور يقيم دولة ديمقراطية ويوفر الحريات للمواطنين ويعطى الجميع حق السعى إلى تداول السلطة من خلال انتخابات حرة ونزيهة، ويطلق الحريات السياسية والمدنية، وبذلك يكون تطبيق المراحل الثلاث للعدالة الانتقالية من كشف الحقائق والقصاص والاتفاق على قواعد العيش المشترك مقدمة حقيقية للتحول الديمقراطى فى البلاد. وهو ما أشرت إليه منذ البداية؛ أنه ما لم تتحقق العدالة الانتقالية فإنه لا مجال لاستكمال التحول الديمقراطى. من هنا أهمية الضغط للإسراع بالإجراءات اللازمة للبدء فى هذه العملية والتعبير عن القلق من تأخر الخطوات العملية اللازمة لذلك ابتداء بإصدار قانون العدالة الانتقالية وتشكيل مفوضية العدالة الانتقالية.