يقول أبى إنه يفعل ما يفعل كى أصير رجلاً ثم يضربنى.
يمسك بطرف حزامه ساحباً إياه فى شبق من حول خصره، ويلفه حول كفه ملوحاً به فى الهواء قبل أن يوجّه ضربة بالقطعة المعدنية الضخمة إلى رأسى فيشجه.
أصرخ فيصفعنى.
أبكى فيبصق على وجهى مردفاً: أمال سيبت إيه للنسوان يا وسخ؟!
تنكمش أمى متابعة ما يحدث فى استسلام، ولا تحاول أبداً أن تدافع عنى، لكن شقيقى الأصغر يتماسك قليلاً قبل أن يقول فى لهجة مغرية وهو يمسك بذراع أبى: وانا كمان، وانا كمان.
يعتدل أبى ويتوقف عن ضربى وهو يشير إلى شقيقى فى فخر: «شايف أخوك راجل ازاى من صغره»؟ قبل أن يصفعنى صفعة ختامية ويلتفت إلى شقيقى ليبدأ فى ضربه وأنا أشكره من بين دموعى ودمائى.
حتى بلغت الخامسة عشرة من عمرى كان أبى يستمتع بإطفاء السجائر على ظهرى العارى، وسكب الملح على جروحى الغائرة التى يسببها لى بضربه الموحش، ورغم أننى صرت وقتها لا أصرخ ولا أبكى فى معظم الأحيان، بل ولا يبدو على وجهى أدنى تأثر، فإنه ظل يعتبرنى -لأسباب لم أجرؤ أن أسأله عنها- عارا عليه، ولم ينسبنى يوماً أبداً إلى عالم الرجال.
لا يبدو على أبى السن رغم أنه تعدى الستين من عمره، ولا أثر فى وجهه لتجاعيد الزمن باستثناء جرح طولى فى خده الأيمن يلهو الذباب عليه إذا ما غفا، وإذا ما استيقظ كان يمسح لعابه بظهر يده قبل أن ينادينى أو شقيقى ليكمل مشروعه الأبدى لصنع رجل.
فى مساء ذلك اليوم الذى لن أنساه، وبينما كنت عائداً مع أبى فى ساعة متأخرة من ورشة الحدادة التى أعمل بها معه خرج ذلك الملثم شاهراً مديته فى وجهينا طالباً من أبى أن يخرج كل ما فى جيبه، مهدداً إياه بإحداث جرح آخر فى خده الأيسر يذكره دوماً بالانصياع إلى أوامر من يحمل المدية ويظهر فى الأزقة الضيقة بعد انتصاف الليل، وللوهلة الأولى لم يبدُ على أبى أنه استمع جيداً، وبدا واضحاً أنه قد يقاوم أو يماطل على أقل تقدير، لكن الرجل ذا المدية شدنى إليه واضعاً مديته عند رقبتى فى حركة سريعة، وللمرة الأولى فى حياتى ألمح فى عينى أبى خوفاً علىّ انقلب إلى هلع لم تخطئه عينى ولا عين الرجل حين رأى الدم اللزج يسيل ببطء ويسقط على الأسفلت العطن محدثاً صوتاً غريباً، وكنت فرحاً لأنى لم أبكِ ولم أصرخ ولم أحاول إثناء أبى عن إخراج النقود من جيبه بمنتهى الانكسار، واضعاً إياها على الأرض، وحين بدأت الأمطار فى الهطول كان اللص يدفعنى لأرتطم بأبى ونسقط سوياً، قبل أن يقترب منا ويتناول النقود فى لهفة ثم يصفع أبى فجأة وهو يقول: اقلع هدومك.
لم يعترض أبى، وراح يخلع ملابسه وسط ذهولى حتى صار عارياً تماماً ليختطف اللص الملابس ويطلق سبة بذيئة متبعاً إياها ببصقة ارتطمت بوجه أبى تماماً، ليتركنا بعدها ويجرى مسرعاً ويبتلعه الظلام.
لم يوافق أبى أن أساعده فى النهوض، ولا أن أستره بمعطفى، بل نهض متثاقلاً وراح يجرى فجأة متعثراً فى كل أحجار الأرض مهما بدت صغيرة وهو يضحك بشدة، بينما رحت أنادى عليه وأنا أبكى وأصرخ باسمه دون جدوى، وحين اختفى من أمامى ولم أعد ألمحه من بين دموعى التى كتمتها بصعوبة، أدركت أننى صرت رجلاً.. وفى اليوم التالى كنا نقف أنا وأخى على جثة أبينا ونغسِّلها، ولا أدرى لماذا لم أعترض حين أخرج أخى الجميع من الغرفة فيما عداى، قبل أن يطفئ سيجارته فى جسد أبى فى تلذذ، وينظر لى بعدها نظرة عجيبة لن أنساها ما حييت وهو يقول لى: «البقية ف حياتك»، ثم راح يبكى دافناً وجهه فى صدر أبى العارى، بينما جلست على الأرض منزوياً فى أحد الأركان أتابع ما يحدث فى صمت.
(قصة قصيرة من مجموعة تحمل نفس الاسم).