عندما تتحدث السطوح
فى مسابقة الأفلام الروائية الطويلة يبرز اسم المخرج الجزائرى المخضرم مرزاق علواش، أحد أعلام جيل السينما الجزائرية الجديدة فى السبعينات، الحائز على عشرات الجوائز الدولية منذ فيلمه الأول «عمر قتلتو الرجولة» ١٩٧٦. وعلواش، شأنه شأن كل الأسماء الكبيرة فى عالم السينما، يحاول خلال مسيرته التى تقترب من الأربعين عاماً أن يعبر -بجرأة فنية وفكرية- عن رؤيته للواقع الجزائرى المعاصر، مهتماً برصد التحولات المستمرة داخل مجتمعه سياسياً واقتصادياً، وانعكاساتها على المواطن البسيط الذى يدفع، وحده، ثمن الصراعات السياسية والمذهبية. ويسعى «مرزاق» إلى سبر أغوار ذلك المواطن محللاً سلوكه الفردى وعلاقته بأفراد المجتمع من حوله، وتأثير تناقضات الواقع عليه، والبحث، بدأب، عن أسباب التشوهات النفسية التى خلفتها تلك الصراعات.
فيلمه البسيط العميق «السطوح»، الذى حصل به على جائزة «أفضل مخرج من العالم العربى» من المهرجان، جاء تعبيراً نموذجياً عن واقع المجتمع الجزائرى حالياً، والعلاقات المتصلة المنفصلة بين أفراده.
خمسة أسطح، وخمسة أحياء، متفاوتة المستوى اقتصادياً واجتماعياً، من بين أحياء مدينة الجزائر العاصمة، وحكايات خمسة تتقاطعها خمس صلوات من أذان الفجر حتى أذان العشاء، يوم وليلة هو زمن حدوث الحكايات التى تفصح عن الواقع المتردى المتسربل بالدين، وتفضح ما حاق بشعب الجزائر من تشوهات.. حكايات يحكيها مرزاق علواش باقتصاد وتركيز دون تزيّد أو ثرثرة، غموض مشروع هنا وكشف مرير هناك، يجعل من الحكايات، رغم عدم تقاطعها أو تشابكها، أجزاء من لوحة بانورامية عريضة نطل من خلال أسطحها على واقع بائس كئيب ومحبط، جاء نتيجة لسنوات العشرية السوداء وما تلاها وما صاحبها من عنف ودم وفساد وتراجع فى منظومة القيم.. مجتمع تحول رجاله ونساؤه إلى وحوش قاسية تعذب وتقتل بدم بارد؛ الأخ يقتل أخاه ثم ينتحب عليه، ومراهقة مدمنة تقتل رجلاً اشتبك مع أخيها، وأم تخفى الجثة دون أن يطرف جفنها، وآخر، أباً كان أو أخاً، يمارس عنفاً عائلياً على امرأة رقيقة ما يدفعها إلى الانتحار، وفرقة موسيقية يحاول أفرادها الخلاص، بالفن، من عنف طاغٍ سائد ومسيطر.
حكاية على كل سطح.. أم عجوز هجرها الزوج وترك لها فتى أحمق وفتاة أكلتها المخدرات، اتخذت الأم من سطح إحدى البنايات مأوى لها ولأبنائها، يستصدر صاحب البناية حكماً بطردها، وحكماً بإنهاء حياته على يد الابنة المدمنة التى تهشم رأسه بقسوة وإصرار، تتستر الأم على الجريمة وكأن شيئاً لم يحدث، إلى أن يرشدها شرطى فاسد متقاعد إلى كيفية الخلاص من الجثة، معرباً عن سعادته بمقتل صهره مالك البناية!
سطح آخر، نراقب فيه عملية تعذيب لأحد الأشخاص يقوم بها متنطعان لحساب ثالث يحاول إجبار الضحية على توقيع أوراق، ربما تنازل، لكنه يرفض ليكون مصيره الموت على يد من نعرف لاحقاً أنه شقيقه حين يبكى بحرقة لفراقه!
سطح ثالث تصدح فيه أصوات الموسيقى فى عُرْسٍ شعبى وسط أجواء التوتر من هجوم بعض الملتحين الذين يجتمعون قريباً من الفرح، فى إشارة إلى أن جذور الإرهاب وعناصره ما زالت مشتعلة تحت الرماد.
فى سطح رابع، ثمة فرقة موسيقية تجرى تدريباتها، مجموعة من الشباب العازفين من بينهم فتاة تغنى بصوت رخيم، تتابعهم، بشوق وشغف، امرأة شابة من سطح مجاور، فى لقطة بعيدة نشاهد رجلاً يضربها بقسوة شديدة، تصرخ المغنية الشابة طلباً لنجدتها وإنقاذها من بين براثن الرجل، لا يأبه زملاؤها لاستغاثتها معللين بأنه ربما كان أباها أو أخاها! وكأن الأبوة أو الأخوة ترتب حقاً مشروعاً فى استخدام العنف ضد المرأة التى لا تجد سبيلاً للخلاص سوى الانتحار بإلقاء نفسها من أعلى البناية وسط صرخات المغنية الشابة التى ذرتها الرياح!
فى «السطوح» تلعب عناصر التصوير والموسيقى والمونتاج دوراً ملموساً وتسهم فى خلق حالة من الصدق الفنى والإنسانى على دراما الأحداث، فتأتى كاميرا «فريدريك دريا» حنون شفوق لا تقترب من الدماء، تتأمل شوارع العاصمة التى لا تكترث بمصاير بنيها، بينما يحفل شريط الصوت بأصوات آلات تنبيه مستمرة صادرة من سيارات إسعاف أو من عربات مطافئ كلها تنبئ عن كوارث وحوادث، وكأنها أجراس إنذار تنبه الغافلين. كما يأتى مونتاج سيلڤى جادمير هادئاً رصيناً ينتقل من سطح إلى آخر بنعومة، يتابع جزءاً مما يحدث فوق سطح، ثم يلحق بجزء على سطح آخر، مستخدماً صوت الأذان كفاصل زمنى على لقطات عامة للمدينة الغافلة، مع موسيقى تعتمد على تيمات من الفلكلور الجزائرى تضيف شعوراً بالمكان والزمان.
جاء سيناريو «السطوح»، الذى كتبه مخرجه مرزاق علواش -رغم قتامته- شديد الإحكام والدقة من خلال شخصيات بلا أسماء تقريباً، يرصد دون خجل ما حاق بالشخصية الجزائرية من تشوهات، ويحلل دون إدانة لأبطاله أسباب العنف والقسوة الوحشية والفظاظة والقتل المجانى، التى تغلغلت فى نفوس أفراد المجتمع باختلاف طوائفهم وانتماءاتهم فى واقع منهك غابت عنه الرحمة وافتقد العدل، رغم الصلوات الخمس!