لماذا استقرت أوروبا بعد عصر النهضة والتنوير والثورة الفرنسية؟، وكيف استقر فى وجدانها حتى هذه اللحظة ديكارت وكانت وفولتير وروسو وجون لوك وغيرهم من فلاسفة وصناع التنوير؟، وكيف حافظت على الحداثة واحتفظت بثورتها على كل قيم الجهل والتخلف والطائفية وانصهر أهلها فى بوتقة التحضر والعلم والعمل؟، وكيف افتقدنا نحن إلى كل هذه المعانى وأهدرنا كل هذه المنجزات البشرية؟ ألسنا نحن الذين استوردنا تلك القيم الأوروبية فى بدايات القرن الماضى ومررنا بنفس المراحل الأوروبية, فلماذا خرجوا هم من عنق الزجاجة وحُبسنا نحن فى قاع القمقم؟!، سؤال مشروع فى هذه اللحظة المفصلية فى تاريخنا التى لا بد أن نختار فيها ما بين طريق السلامة وطريق الندامة، الإجابة ببساطة: لأننا لم ندفع ثمن التنوير، هم فى أوروبا دفعوا الثمن دماً ونحن قد جاءنا التنوير على الجاهز عبر البحر بالغزو الفرنسى تارة وبالسفر والبعثات العلمية تارة أخرى، جاءنا التنوير ديليفرى ومطبوخاً ومغلفاً ومجهزاً على المائدة لا ينتظر إلا الشوكة والملعقة المصرية، لكنهم هناك نزلوا السوق وكافحوا للشراء والتجهيز والطبخ، هنا ترجم لنا الطهطاوى ولطفى السيد وطه حسين فانتقلت لنا قيم التنوير كمفتاح ابتلعناه خطأ من الفم فنزل مباشرة إلى القولون ومنه إلى دورة المياه، حيث نشاهد الآن فضلات البشر وحثالة الإرهابيين يشرحون لنا قواعد حياتنا الأخلاقية والدينية من خلال قطع الرؤوس وبتر الأطراف وسحل الجثث وحرق البيوت باسم تطبيق شرع الله!، هذا المفتاح التنويرى لم يختلط مع الجينات المصرية وظل جسماً طفيلياً غريباً عنا تحت شعار وهمى؛ أن قيم التنوير الأوروبية تتعارض مع قيمنا الخاصة وتديننا الفطرى، أما هناك فى أوروبا فقد كانت قيم التنوير عصارة هُضمت وامتصت ودخلت وانغرست واختلطت فى جيناتهم، لذلك احتفظوا بها حتى هذه اللحظة وفقدناها نحن من أول لحظة.
عدنا الآن إلى نقطة الصفر وبدأنا دفع فاتورة التنوير باهظة الثمن، لكن لا بد من أن ندفعها حتى يستمتع أبناؤنا بنورها، جنين التنوير لا يولد ولادة قيصرية بل ولادة طبيعية وبدون تخدير، فولادة التنوير لا بد لها من ألم قاس ومخاض عسير، دفعنا ثمن التنوير متأخرين لكن أن ندفعه متأخرين أفضل من ألا ندفعه نهائياً.