كلاب «الحوأب» تنبح أم المؤمنين
استجاب الناس لدعوة عائشة (رضى الله عنها) للثأر من قتلة عثمان، وقالوا لها: حيثما سرت سرنا معك، فقال قائل: نذهب إلى الشام، فقال بعضهم: إن معاوية قد كفاكم أمرها، وقال آخرون: نذهب إلى المدينة، فنطلب من على أن يسلّم إلينا قتلة عثمان فيقتلوا، وقال آخرون: بل نذهب إلى البصرة فنتقوى من هنالك بالخيل والرجال، ونبدأ بمن هناك من قتلة عثمان، فاتفق الرأى على ذلك، وكانت بقية أمهات المؤمنين قد وافقن عائشة على المسير إلى المدينة، فلما اتفق الناس على المسير إلى البصرة رجعن عن ذلك، وقلن لا نسير إلى غير المدينة، وكانت حفصة بنت عمر أم المؤمنين قد وافقت عائشة على المسير إلى البصرة فمنعها أخوها عبدالله، وأبى هو أن يسير معهم إلى غير المدينة. وسار الناس صحبة عائشة فى ألف فارس وقيل تسعمائة فارس من أهل المدينة ومكة، وتلاحق بهم آخرون فصاروا فى ثلاثة آلاف، وأم المؤمنين «عائشة» تحمل فى هودج على جمل اسمه «عسكر» اشتراه يعلى بن أمية، وسار الناس قاصدين البصرة، وكان الذى يصلى بالناس عن أمر عائشة ابن أختها عبدالله ابن الزبير، ومروان بن الحكم يؤذن للناس فى أوقات الصلوات.
واضح أن السيدة عائشة (رضى الله عنها) هى التى كانت تتولى أمر قيادة الحملة التى رفعت شعار الثأر من قتلة عثمان، فهى التى حددت من يؤم الناس فى الصلاة، واختارت لذلك عبدالله بن الزبير ابن أختها أسماء، ووظفت مروان بن الحكم للأذان، ومروان كما هو معروف من أبرز أفراد بطانة عثمان، وهو المتهم بتزوير الكتب على الخليفة وإمهارها بتوقيعه وخاتمه، وقد تسبب أحدها فى محاصرة الخليفة وقتله. ويحكى صاحب «البداية والنهاية» هذه القصة الغريبة التى وقعت أحداثها أثناء مسير جيش عائشة إلى البصرة، ويقول: «وقد مروا فى مسيرهم ليلا بماء يقال له الحوأب، فنبحتهم كلاب عنده، فلما سمعت ذلك عائشة، قالت: ما اسم هذا المكان، قالوا: الحوأب! فضربت بإحدى يديها على الأخرى، وقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ما أظننى إلا راجعة، قالوا: ولم؟. قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول لنسائه: ليت شعرى أيتكن التى تنبحها كلاب الحوأب، ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته، وقالت: ردونى ردونى، أنا والله صاحبة ماء الحوأب». ورغم تحفظى على فكرة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يتنبأ بالغيب، إلا أننى أريد أن أتوقف أمام هذا المشهد الذى حكاه العديد من كتب التاريخ الإسلامى، فالقصة تشير إلى أن السيدة عائشة ارتعدت عندما سمعت عواء الكلاب فى «الحوأب»، وتذكرت سؤال النبى صلى الله عليه وسلم لنسائه: أيتكن التى تنبحها كلاب الحوأب، فى إشارة استنكارية لمسلك واحدة منهن سوف يرتبط بهذا المكان، وبالتالى فقد وصلت أم المؤمنين إشارة واضحة بأنها ليست محقة فى الخروج ضد على، وقد أوشكت أن تعود أدراجها إلى المدينة بعد هذا الموقف، إلا أن من حولها أثنوها عن ذلك «وقال لها عبدالله بن الزبير: إن الذى أخبرك أن هذا ماء الحوأب قد كذب».
كان على فى ذلك الوقت ينوى التوجه نحو الشام لإخضاع معاوية، فلما بلغه قصد طلحة والزبير البصرة خطب الناس، وحثهم على المسير إلى هناك، ليمنع أولئك من دخولها إن أمكن، أو يطردهم عنها إن كانوا قد دخلوها، فتثاقل عنه أكثر أهل المدينة، واستجاب له بعضهم. وخرج على من المدينة فى نحو من تسعمائة مقاتل. وجاء الحسن بن على إلى أبيه فى الطريق فقال: لقد نهيتك فعصيتنى، تقتل غدا بمضيعة لا ناصر لك، فقال له على: إنك لا تزال تحن على حنين الجارية، وما الذى نهيتنى عنه فعصيتك؟ فقال: ألم آمرك قبل مقتل عثمان أن تخرج منها، لئلا يقتل وأنت بها، فيقول قائل أو يتحدث متحدث؟ ألم آمرك أن لا تبايع الناس بعد قتل عثمان، حتى يبعث إليك أهل كل مصر ببيعتهم؟ وأمرتك حين خرجت هذه المرأة وهذان الرجلان أن تجلس فى بيتك حتى يصطلحوا فعصيتنى فى ذلك كله؟ فقال له على: أما قولك أن أخرج قبل مقتل عثمان فلقد أحيط بنا كما أحيط به، وأما مبايعتى قبل مجىء بيعة الأمصار، فكرهت أن يضيع هذا الأمر، وأما أن أجلس، وقد ذهب هؤلاء إلى ما ذهبوا إليه، فتريد منى أن أكون كالضبع التى يحاط بها؟ فكف عنى يا بنى».