رغم بعض الانتقادات الخفيفة لعدد من مواد الدستور الجديد، تستهدف صياغة أكثر انضباطا وقربا لمضمون هذه المواد، أو تعيد النظر فى ترتيب أولوياتها الموزعة على فصوله الثمانية، أو تفاضل بين الصياغة التى وردت فى مشروع الدستور وصياغة أخرى ربما تكون أكثر مباشرة ووضوحا، خاصة ما يتعلق منها بالخلاف المثار حول مدنية الحكم أو مدنية الدولة، يظل الدستور الجديد أكمل الدساتير المصرية وأكثرها تقدما، وأوفرها فى استكمال حقوق المصريين الواجبة.. ولا أظن أن أياً من هذه الانتقادات يمس جوهر القضية، وهى أننا إزاء دستور جديد هو أكثر دساتير مصر حفاوة بحقوق المصريين، وأشدها إنصافا لحقوق المرأة، وأكثرها عداء للتمييز والفساد والإهمال وغياب معايير الجودة والإتقان، وأكثرها انضباطا فى تحقيق التوازن بين السلطات، يقدم للمصريين أساسا صحيحا لبنية قانونية جيدة تعقم فرص إنتاج حكم شمولى ديكتاتورى جديد، وتقنن الحريات العامة والخاصة فى إطار دولة ديمقراطية قانونية، تعتبر الالتزام بحقوق الإنسان شرطا لازما لصلاحية الحكم والإقرار بشرعيته، وترى فى حريات الاعتقاد والتعبير والابتكار والبحث العلمى التزامات أساسية واجبة من أجل تحقيق التقدم.
ولا أود أن أفيض كثيرا فى تعداد ميزات الدستور الجديد، لأن مشروع الدستور متاح للجميع، وفى وسع كل مواطن أن يقرأه ويحكم عليه، لكن الحديث عن الدستور الجديد لا يستقيم دون الحديث عن إقراره حقوق المواطنة للجميع، بما ينهى كل صور التمييز بين المواطنين بسبب الجنس أو اللون أو الدين أو الإعاقة والفقر، ودون الحديث عن المساواة بين المرأة والرجل فى جميع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية دون أى شروط مسبقة، مع الاعتراف بحقها فى تولى أى من المناصب العليا، فضلا عن إنجازين آخرين مهمين؛ إلغاء مجلس الشورى وإلغاء نسبة تمثيل العمال والفلاحين على مستوى البرلمان، مع الإبقاء عليها على مستويات المجالس المحلية.
وقد لا يكون دستور لجنة الخمسين هو الدستور المثالى الذى يحقق للمصريين كل آمالهم، لكنه باليقين دستور جيد يفتح الطريق إلى حياة ديمقراطية صحيحة، ويلبى احتياجات أساسية تفرضها طبيعة المرحلة التاريخية التى تمر بها مصر.. ومع الأسف لم تنصف الصحافة الغربية هذا الدستور الذى يتفوق بمراحل على دستور 2012، خاصة فى المواد المتعلقة بقضايا الحريات وتوازن السلطات، على العكس تعمدت الصحافة الغربية الإساءة إلى الدستور الجديد لأهداف فى نفس يعقوب!، عندما اعتبرت وظيفته الأولى ترسيخ حكم العسكر، لأن الدستور يجيز محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية، ولأنه جعل تعيين رئيس الجمهورية لوزير الدفاع مرتبطا بموافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وكلها تعلات غير صحيحة؛ لأن معظم مواد الدستور فضلا عن ديباجته تؤكد على دولة ديمقراطية قانونية ذات حكم مدنى، ولأن محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية ترتبط فقط بالعدوان المباشر على أى من مؤسسات الجيش وجنودها وأسلحتها ووثائقها، كما أن ارتباط تعيين وزير الدفاع بموافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة يشبه تماما تعيين النائب العام بعد ترشيحه من المجلس الأعلى للقضاء، ويشبه ترشيح رئيس المحكمة الدستورية من داخل جمعيتها العمومية.. ولا بأس أن يكون من مسئولية المجلس الأعلى ترشيح وزير الدفاع حفاظاً على وحدة المؤسسة العسكرية، لكن ذلك لا يعنى بالمرة عسكرة الحكم أو الخلط بين الجيش والسياسة، الذى لا يقل خطورة عن الخلط بين الدين والسياسة.
لقد كان الكثيرون يتوقعون أن تنفجر لجنة الخمسين على نفسها، وتتحول اجتماعاتها إلى أزمات مستمرة تنتهى بفشل مهمتها، خاصة أن بنود الدستور تنطوى على عدد من المواد الألغام، يصعب التوافق عليها فى ظل اتساع الفجوة بين رؤى السلفيين وأنصار الشريعة الإسلامية ورؤى باقى القوى والتيارات السياسية حول عدد من المواد، ابتداء من المادة الثانية، التى يصر السلفيون على إتباعها بمادة أخرى تفسر معنى مبادئ الشريعة، وتضيف إليها جميع الأحكام التى صدرت عن جميع المرجعيات الأساسية لأهل السنة والجماعة، رغم ضخامة الفروق بين هذه المرجعيات فى قضايا عديدة اختلفت عليها تأويلات الفقهاء، فضلا عن اختلافات الرؤى حول علاقة الدين بالسياسة، وحقوق المرأة فى مساواتها بالرجل، ومدى شرعية ولايتها على الناس، ووظيفة دور العبادة، وهل تصلح منابرها للترويج لدعاوى حزبية وسياسية، وأيهما يكون مصدر السلطات؛ النص الدينى أم الإرادة الشعبية التى تفرزها انتخابات حرة ونزيهة؟
وما من شك أن نجاح لجنة الخمسين فى عبورها هذه الأزمات، يعود إلى القدرات المتعددة التى يتمتع بها رئيسها عمرو موسى، الذى استعاد بعض بريقه القديم كما استعاد الكثير من شعبيته، بما يؤهله لأن يكون جزءا من المشهد السياسى فى المرحلة القادمة، لأن الحلول التى توصلت إليها اللجنة كانت فى الأغلب حلولا مرضية، حققت قدرا كبيرا من التوافق الوطنى بين أعضاء اللجنة على اختلاف توجهاتهم، فى مجتمع انقسم على نفسه إبان حكم جماعة الإخوان، فضلا عن أن هذه الحلول لقيت قبولا واسعا من المصريين، خاصة ما يتعلق منها بإلغاء المادة 219 اكتفاء بالتفسير الذى أورده حكم المحكمة الدستورية، وما يتعلق بعدم قيام أحزاب سياسية على أسس دينية، المادة التى يعتبرها كثيرون أيقونة الدستور الجديد ومفتاح الإصلاح السياسى المطلوب، وما يتعلق أيضاً بمدنية الحكم التى جاءت فى شكل فقرة عابرة فى ذيل ديباجة الدستور، لكن جميع مواد الدستور الجديد تتجاوب مع أصداء هذه الفقرة، بما يؤكد توافق روح الدستور مع مدنية الحكم ومدنية الدولة. نعرف أن نصوص الدستور على أهميتها تظل مواد صماء لا تغير شيئاً على أرض الواقع مهما حسنت صياغتها، إلى أن تدخل حيز التطبيق العملى وتصبح حقوقا دستورية واجبة النفاذ.. ولأن الدستور الجديد لم يكتف بمجرد إقرار حقوق المواطن فى الصحة والتعليم، لكنه اشترط لأول مرة معايير واضحة فى الجودة لهذه الحقوق، تغير على نحو جذرى مستويات الرعاية الصحية بما يضمن حسن استقبال المرضى فى أقسام الاستقبال دون أى شروط مسبقة، والوفاء بكل احتياجاتهم العلاجية، وتقديم ضمان صحى شامل لجميع المواطنين فى مواجهة جميع الأمراض، كما يعنى تطبيق معايير الجودة فى التعليم، تخفيف كثافة الفصول وتجهيز مدارس نظيفة ولائقة، ومعالجة نقص المعلمين وتحقيق الانضباط المدرسى، وتقليل الاعتماد على الدروس الخصوصية، فضلا عن التزام الدستور بضرورة إنهاء مشاكل الخلط بين مياه الشرب والصرف الصحى فى أقرب وقت ممكن، ومن شأن ذلك كله رفع التكلفة الاقتصادية للدستور الجديد حتى تتحقق معايير الجودة فى خدمات الصحة والتعليم والإسكان. صحيح أن الدستور حدد للمرة الأولى نسبة 4% من الناتج المحلى العام للإنفاق على التعليم، ونسبة 3% للإنفاق على الصحة، ونسبة 1% للإنفاق على البحث العلمى، ونسبة 1% لتحسين الجامعات، لكن الوفاء بهذه الاستحقاقات يتطلب إعادة نظر شاملة فى الموازنة، تضع فى اعتبارها أن الحقوق الدستورية لا بد أن تلبى فى الأجل المنظور كى لا يصبح الدستور حبرا على ورق.. وفى جميع الأحوال فإن الدستور الجديد يشكل خطوة أساسية فى بناء الدولة المدنية القانونية، ودرعا صلبا يحمى الحريات العامة والخاصة، وقاعدة أساسية لبناء الجمهورية الثالثة، التى تفتح لمصر طريق الديمقراطية بعيدا عن هذه الثنائية الصعبة التى تفاضل بين حكم العسكر وحكم جماعة الإخوان. وما من شك أن الخروج الكثيف للمصريين يوم الاستفتاء سوف يختصر كثيرا معركة الشعب مع جماعة الإخوان، وأظن أنه سوف يكون حافزا قويا للفريق السيسى كى يحسم موقفه من الترشح لمنصب رئيس الجمهورية الذى تأخر كثيرا، بما يزيد من تماسك الجبهة الداخلية ويعزز قدرتها على الصمود فى مواجهة تخريب جماعة الإخوان، ويحقق الطمأنينة لشعب لا يزال يعايش القلق بسبب غياب اليقين بغد أفضل.