لو كان الأمر بيدى لأصدرت قراراً ملزماً لكل الفضائيات المصرية الخاصة والعامة بالتركيز لمدة أسبوع، على الأقل، على الحكم القضائى الذى أصدرته محكمة القضاء الإدارى بكفر الشيخ منتصف الأسبوع الماضى، والذى أصدره المستشار الدكتور محمد عبدالوهاب خفاجى، نائب رئيس مجلس الدولة رئيس محكمة القضاء الإدارى بكفر الشيخ.
وقبل أن أتحدث عن منطوق الحكم، أسرد عليكم ملخصاً دقيقاً للحكاية حتى تعم الفائدة، وحتى نقف معاً على خطورة تجاوز أى شخص أو أى حركة سياسية لدورها السياسى أو الاجتماعى، وحتى نفرح معاً بالأداء المهنى الراقى والمحترم لمؤسسة القضاء المصرى.
والحكاية أن مدير الإدارة الصحية فى مركز سيدى سالم بمحافظة كفر الشيخ أحيل للمعاش فى شهر أغسطس 2013، فاجتمعت لجنة الترشيحات للوظائف الإدارية واتفقت على استحقاق الدكتور أحمد ضياء الدين للترقية إلى هذه الوظيفة، وصباح 13 أغسطس أصدرت الدكتورة لميس المعداوى، وكيل وزارة الصحة بالمحافظة، قراراً بتعيين الدكتور ضياء الدين مديراً لإدارة سيدى سالم الصحية.. وانتقل الرجل إلى مقر عمله الجديد وانهالت عليه التهانى من زملائه وتلاميذه، وقضى يوماً حافلاً بينهم يستمع إلى اقتراحاتهم لتطوير الأداء فى المنظومة الصحية بالمركز الذى يضم عشرات القرى والكفور والعزب الصغيرة.
وصباح اليوم التالى، 14 أغسطس، ذهب الرجل إلى عمله وقضى عدة ساعات قبل أن يفاجَأ بتصرفات مريبة ومرتبكة تصدر عن المحيطين به، وما هى إلا لحظات حتى جاءه من يخبره أنه من الأفضل له أن يغادر المكان حالاً لأن الدكتورة لميس المعداوى أصدرت قراراً آخر منذ ساعات بإنهاء عمله كمدير للإدارة وتعيين زميل آخر مكانه يدعى الدكتور الشحات قطب نزولاً على رغبة حركة «تمرد» بالمحافظة التى رشحت الأخير، ومن المنتظر أن يصل الدكتور الشحات خلال دقائق مصحوباً بزفة سياسية ضخمة تضم النشطاء السياسيين فى مركز سيدى سالم من أعضاء حركة «تمرد» وأعضاء نقابة الفلاحين أيضاً.
اتصل الدكتور أحمد ضياء الدين بالدكتورة لميس المعداوى ليتأكد بنفسه من حقيقة هذه الأخبار العجيبة، فإذا بها تخطره أن حركة «تمرد» بالمركز أرسلت «فاكس» إلى رئيس مجلس المدينة تعترض فيه على تعيينه مديراً للإدارة وتقترح تعيين الدكتور الشحات بدلاً منه، وأنها رأت الاستجابة لحركة «تمرد» وتنفيذ مطالبها حتى تستريح من «وجع الدماغ».
حمل الدكتور ضياء الدين أوراقه واتجه على الفور إلى بيته، وبعد تفكير هادئ فى الأمر قرر أن يلجأ للقضاء الإدارى، ورفع دعوى قضائية، ومنتصف الأسبوع الماضى أصدرت المحكمة حكمها الناصع بإلغاء قرار الدكتورة لميس المعداوى بتعيين الدكتور الشحات قطب مديراً للإدارة الصحية نزولاً على رغبة حركة «تمرد» وأعضاء نقابة الفلاحين بالمحافظة، وإلغاء كل الآثار التى ترتبت عليه واعتبارها والعدم سواء، وهو ما يعنى عودة الدكتور أحمد ضياء الدين إلى وظيفته مديراً للإدارة الصحية المذكورة.
وجاءت حيثيات الحكم درساً قانونياً رفيع المستوى لكل المشتغلين بالعمل العام والناشطين السياسيين يضع حدوداً فاصلة لا ينبغى تجاوزها، بين الحريات السياسية من جهة، واستقلال الجهاز التنفيذى للدولة من جهة أخرى، دون تغول أو افتئات. فقد نصت الحيثيات على أن «الحركات السياسية ومنظمات المجتمع المدنى لها دور فعال فى تمكين المواطنين من المشاركة فى تحسين مستواهم الاجتماعى، وتكوين رأى عام مستنير لحمل الحكومات على احترام الحريات ومشاركة الشعب فى تحقيق التقدم والرخاء.. ولكن دور الحركات السياسية يقف فى كل الأحوال على أعتاب مراعاة حدود القانون وعدم التغول عليه.. مما لا يجوز معه التدخل فى شئون الوظائف العامة أو الوساطة فى تعيين البعض دون الآخر».
ثم انتقلت الحيثيات لتخاطب وكيلة وزارة الصحة «كان يتعين عليها وهى على القمة فى مرافق الصحة بالمحافظة ولها من الخبرة والدراية، ألا تنصاع لتدخل حركة تمرد أو نقابة الفلاحين فى شئون الوظيفة العامة.. بل كان يجب عليها أن تصدع فقط لأحكام القانون».
لقد جرت الأعراف على أن أحكام القضاء لا ينبغى التعامل معها صحفياً بالاستهجان أو الاستحسان، ولكنى هنا لا أملك غير الانحناء احتراماً وتقديراً لهذا القاضى الجليل ولأعضاء دائرته الذين أصدروا هذا الحكم المبين، لأنه جاء فى وقته تماماً ليضع نهاية قضائية ملزمة للصخب السياسى الفظيع الذى اختلط فيه الحق بالتغول والواجب بالفوضى، واستغله بعض النشطاء فى تجاوز حدودهم إلى درجة الشطط الذى يشير فى كثير من التصرفات إلى نوع من سوء التربية وانحطاط الأخلاق.