يكتب هنا أياماً فى الأسبوع راجل اسمه محمود الكردوسى.. وإن أردنا الدقة هو «قلم طلع له راجل».. موهبته فى الكتابة تجعل خصومه يقرأونه للمتعة حتى لو كان يسبُّهم.. حبه لوطنه يغلق عينيه على نصف الحقيقة.. يقولون إن الإفراط فى الحب يصيب المحب بخوف هستيرى على المحبوبة.. لذا يخوض الكردوسى حرباً شرسة ضد من يسميهم وهماً وخطأً «ثوار يناير».. هو يكتب ويكتب ويكتب.. وهم يصرخون ويولولون ويلطمون الخدود: الكردوسى يحرّض ضدنا.. الحقونا..! والواقع أن كليهما يرى بعين واحدة.. فلا هؤلاء المدّعون ثوار يناير.. ولا مصر «حزقت» وتألمت فأنجبت الكردوسى.. ثم علمته فن القول، لينفق موهبته النادرة وقلمه المسنون فى التصويب على دُمى بلا قيمة..!
يرى الكردوسى، وغيره كثيرون، أن مصر لم تعد مصر بسبب «عيال ٢٥ يناير».. بينما يؤمن هؤلاء «العيال» أنهم حرروا مصر، ومن حقهم أن يجنوا ثمار ثورتهم.. غير أن الطرفين دخلا مساحة الخصومة والثأر.. فتاهت منهما الحقيقة، لأن مصر لم تكن جميلة قبل «٢٥ يناير» مثلما يحاول الكردوسى إقناعك.. ولا هى أصبحت فاتنة كما يزعم من ركبوا «ميكروباص التحرير» وصرخوا فى الفضائيات أكثر مما هتفوا فى الميدان..!
يتحرك الكردوسى، ومثله كثيرون، وكأن ثورة ٣٠ يونيو أبرقت فى سماء لم يسبق أن هطلت منها زخات المطر.. ينسى البعض فى غمرة الفرح بإنجاز الإطاحة بالإخوان أن شهر يناير يسبق يونيو دائماً، وأن الرقم ٣٠ لاحق لرقم ٢٥ سواء فى «زراير الآلة الحاسبة» أو عدّاً على الأصابع.. فإذا كانت ٣٠ يونيو شمساً سطعت فى ظلام حالك، فإن ٢٥ يناير كانت الفجر الذى نزع الخيط الأسود من أرض مصر، وكسا سماءها بالخيط الأبيض.. وإذا كانت ٣٠ يونيو إعصاراً كاسحاً، فإن ٢٥ يناير كانت موجة هادرة، أزاحت الصخور، ومهدت للإعصار أرضاً ظلت لقرون وعقود طويلة عصية على التغيير.. وإذا كانت ٣٠ يونيو هدفاً قاتلاً فى مرمى صعب، فإن ٢٥ يناير كانت تمريرة عبقرية من صانع ألعاب فتح الملعب على مصراعيه لكل الهدافين..!
على الضفة الأخرى، يمشى «ثوار يناير» بزهو، وكأنهم أسياد الشعب.. يمنّون علينا دائماً بأنهم انتشلونا من مستنقع سحيق، دون أن يسألوا أنفسهم ما الذى جناه الشعب من نزقهم ومراهقتهم وتسابقهم الساذج لجمع الغنائم.. ينسى هؤلاء أن يونيو أتى بعد يناير ليصلح ما أفسدوه، وأن الملايين الذين خرجوا فى «ثورة التصحيح» إنما كانوا يصرخون فى الميادين ضد الإخوان وضدهم، ضاقت الناس بخيانة الإخوان للوطن، وضجت وصرخت من خطايا الثوار التى منحت «الجماعة» مصر على طبق من ذهب..!
لا يعرف الكردوسى وكثيرون أن مصر بحاجة إلى بناء، أكثر من تصفية حساب الماضى.. مستقبل بناتك يا كردوسى أهم وأغلى من إنفاق الوقت ومداد القلم فى محاربة أموات، أو مواجهة كروت محروقة.. فالشعب يعرف عنهم أكثر منك.. الشعب يعلم أنهم ذهبوا لميدان التحرير، بصناديق وخزائن فارغة ليحصل كل واحد على نصيبه من الكعكة.. ولأن الإخوان تمكنوا من قياسهم فى الأيام الأولى، تركوا لهم شاشات الفضائيات وميكروفونات الميادين وتحويلات «الدولارات»، وخطفوا مصر والسلطة والكرسى.. كانت قسمة عادلة بين طرفين ظالمين.. وكلاهما رضى بها، بينما كنا فى غمرة الفرحة، وخَضّة التغيير..!
لم تكن ٢٥ يناير -يا كردوسى- ثورة أحمد ماهر و«٦ أبريله» ومحمد عادل وأسماء محفوظ ومصطفى النجار.. ثمة مليون اختلاف بينهم وبين أشرف السيد من «إمبابة» وكامل عبدالفتاح «الهرم» وليلى حسن «المطرية» وسالم جمال «السويس» وملايين غيرهم.. الفريق الأول غادر الميدان بعد تنحى مبارك إلى جلسات تقسيم المكاسب والغنائم.. لذا لم يكن غريباً أن يقول مصطفى النجار لابن القرضاوى فى التسجيلات المسربة «هنجيب البرادعى رئيساً لمصر وربنا يسامحنا».. يعرف النجار حتماً أن الله عز وجل غفور رحيم.. ولكنه لا يعرف قطعاً أن اللعب بالوطن واللعب عليه ليس فقط ذنباً ولا معصية ولا حتى من الكبائر.. إنه خيانة.. والله سبحانه وتعالى لم يصف هذه الجريمة فى محكم التنزيل، ربما لأنه تركها لذاته العليا، وقد يكون عذابها فى الدنيا خزياً وعاراً، وفى الآخرة ما هو أشد من جهنم..!
ثورة يناير -يا كردوسى- هى صيحة المضطهدين.. تماماً مثل ثورة ٣٠ يونيو.. الاثنتان صنعهما أشرف وكامل وليلى وسالم.. وليس ماهر وعادل وأسماء والنجار.. غير أن أشرف وكامل وليلى وسالم عادوا إلى بيوتهم، فى انتظار مصر الجديدة، بينما نهش ماهر وعادل وأسماء والنجار فى «جثة مصر القديمة»..!
مصر أنجبتك -يا كردوسى- لتكتب عن أشرف وكامل وليلى وسالم ولهم.. لتضمد جراحهم كل صباح، وتبشرهم بمستقبل أفضل كل مساء.. أما ماهر وعادل وأسماء والنجار فقد أخذوا ما سعوا إليه.. ولم يعد بمقدورهم أن يخدعوا أحداً.. مصر -يا كردوسى- لا تُلدغ مرتين!