لم أندهش إطلاقاً عندما أصدر الدكتور أحمد جلال، وزير المالية، قراراً بتحديد أسعار السجائر بكل أنواعها، ولم أندهش أيضاً من محاولته المكشوفة لخداع الرأى العام، عندما ادعى أن قراره الذى صدر قبل أيام «ليس أكثر من تعريف المستهلكين بالأسعار الحقيقية للسجائر.. كما أنه يوفر للدولة مبالغ مالية كبيرة سيتم تحصيلها كضريبة من التجار الذين يبيعون السجائر بأسعار أعلى من الأسعار الحقيقية».
ومصدر عدم اندهاشى مما فعله الدكتور أحمد جلال هو أننى لم أنتظر من هذا الرجل، منذ مجيئه وزيراً للمالية، غير هذا الأداء القائم على «الفهلوة» والتلاعب بالألفاظ وتسمية الأمور بغير أسمائها الحقيقية، والعمل الدائم على إرضاء بارونات وأباطرة السوق، والعداء المتأصل لكل فئات الشعب المنتجة والصابرة، والتدليل المطلق لفئة قليلة غادرة ومتوحشة، تعيش من مص دماء الشعوب وتتحايل لسن قوانين تحمى سرقاتها المتراكمة، وتفرح بوزير خزائن مصر عندما يكون على شاكلة الدكتور جلال الذى عاش عمره كله تلميذاً وزميلاً وأستاذاً فى كنف المؤسسات الاقتصادية التى تعمل لصالح الرأسمالية المتوحشة المسيطرة على العالم، مثل صندوق النقد الدولى والبنك الدولى للإنشاء والتعمير.
ورغم عدم اندهاشى مما فعله الدكتور أحمد جلال فى قضية «السجائر»، فقد أصابنى الذهول من انعدام فهم حكومة الدكتور حازم الببلاوى لما حدث، ومن انعدام إدراكهم لحقيقة ساطعة أصبحت من العلم العام، ويعرفها جيداً أقل بائع سجائر وأى مدخن «سجاير فرط»، وهذه الحقيقة تتلخص فى أن سوق السجائر فى مصر يسيطر عليها عدد محدود جداً من الأباطرة لا يزيد على عشرة أشخاص، قاموا بعد أيام قليلة من ثورة 25 يناير 2011 برفع سعر بيع كل السجائر لتجار التجزئة بواقع جنيهين كاملين فى كل علبة، رغم أن السجائر من السلع المسعَّرة جبرياً، وكلما قامت الحكومة برفع السعر رسمياً ليتوافق مع السعر الفعلى فى السوق، سارع التجار بـ«هبش» جنيهين زيادة على كل علبة، وقبل شهور أصدر اللواء محمد أبوشادى، وزير التموين، قراراً بفرض التسعيرة الاسترشادية لمواجهة جشع التجار، وما إن استبشرنا خيراً بالقرار حتى صحونا على كارثة؛ فقد قام الرجل بتحديد أسعار للخضار والفواكه تزيد على أسعار بيعها فى السوق فعلاً، وتسبب فى خراب بيوت المزارعين والفلاحين؛ لأنه لم يضع تسعيرة استرشادية لبيع المحصول من المزرعة قبل أن يضع تسعيرة بيعه للمستهلك، وكانت النتيجة مزيداً من الثراء الفاحش لأباطرة السوق، ومزيداً من الإفقار للمنتجين، وكان أغرب ما حدث فى «استرشادية أبوشادى» أنها تدخلت فى كل شىء، إلا فى «السجائر» التى تخضع لتسعيرة إجبارية من الأساس، وظلت حتى يومنا هذا تباع بزيادة جنيهين كاملين فى العلبة الواحدة دون أن يجرؤ وزير أو خفير على الاقتراب من مافيا أباطرة السجائر.
وأخيراً جاء أحمد جلال بقراره المخادع الذى رفع به أسعار السجائر فعلياً جنيهين كاملين فى العلبة الواحدة، وبعد قراره بدقائق ارتفعت الأسعار جنيهين آخرين ليستمر العشرة المتوحشون فى هبش 60 مليون جنيه فى اليوم الواحد من لحم المصريين (الاستهلاك اليومى يزيد على 30 مليون علبة)، والنتيجة التى لا أظن أن أحمد جلال يجهلها أن حصيلة الدولة من ضريبة المبيعات على السعر الجديد زادت كثيراً، ولكن من جيوب الغلابة الذين يدخنون بشراهة من شدة القهر الرأسمالى، بينما سيظل عشرة أشخاص فقط يسرقون ملياراً و800 مليون جنيه شهرياً من جيوب المواطنين، لن يدفعوا عنها قرشاً واحداً لمصلحة الضرائب؛ لأنها أموال يتم تحصيلها «عينى عينك» خارج أى إطار رسمى، وإن كنت لا أشك أبداً فى أن هناك داخل أروقة الوزارات المعنية وعند قمة هرمها الوظيفى من يتقاضى أموالاً طائلة من هذه المافيا نظير سكوته على هذه اللصوصية الفاجرة، ومكافأة له على إمعانه فى إصدار قرارات تخدم مصالح هذه الفئة المتوحشة، وتكرس آليات تعظيم موارد الدولة من مواصلة مص رحيق الحياة من شرايين الشرائح المنتجة.