لن يأتينى صوتُه العميق عبر الهاتف هامساً: «شاطرة يا بنت!» كما اعتاد أن يفعل كلما أعجبه مقالٌ لى. هو لن يقرأ هذا المقال، ولن يعاتبنى إذا أخلفتُ موعدى معه بصالونه الثقافى. فما عاد يُشجّعُ أو يعاتب. العصفورُ الذى طار عن «غصن» مصرَ اليوم، مطربٌ ومثقفٌ ومناضلٌ رفيع الطراز. نسمعه، فيستعيدُ أبناءُ جيلى فرحةَ أكتوبر التى عرفناها صغاراً، ويستعيد الأكبرُ منّا مرارةَ يونيو. قادرٌ صوتُه على نقر قلبك بزخّات النصر، وعلى وخز روحك بشوكة الهزيمة، ثم تضميده بالرجاء فى غدٍ أجمل.
إحدى أغنياته تزخر بتلك السّمة «الإشعاعية» النادرة. تشعُّ الفرح والحزن، فى آن، حسب الظرف الذى تسمعها فيه، وحسب مكونك الذاكراتىّ الذى تحمله طفولتك.
«مدد مدد مدد مدد/ شدّى حيلك يا بلد/ إن كان فى أرضك مات شهيد/ فيه ألف غيره بيتولَد».. غناها عصفورنا بعد انكسارة يونيو 67، لكن أولى الأمر رفضوا تسجيلها فى الإذاعة؛ لأنهم أرادوا إيهامَ الشعب أن ما حدث مجرد «نكسة» عابرة، لا هزيمة تستوجب «المدد». وانتشرت وقتها أغانٍ سطحيةٌ مُفرَّغةٌ من الروح، مُفرِّغةٌ للروح، من قبيل: «الطشت قال لى»، و«العتبة جزاز»، لإلهاء الناس عن الإخفاق. أو ربما كانت ردّةَ فعل ضربتِ المبدعين بالهزل والعبث الذى يعقُبُ المرارات. مثلما تصيبنا نوبةُ ضحكٍ هيستيرية بعد حادث موجع يشرخُ القلب. وظلّتِ الأغنيةُ، التى انطلقت من حنجرة الفتى «نوح» لحظة وجع، حبيسةَ الأدراج، حتى أشرق أكتوبر بالفرح. بحثوا عنه، وعن أغنيته، وطالبوه بها؛ فصدحت فى سماء مصر. فكانت بهذا أغنيةَ الانكسار، وأغنيةَ الفرح.
اتهمه الإخوانُ آنذاك، بأنه شيوعى؛ يَحض على النضال والثورة! واتهمه الشيوعيون بأنه من الإخوان؛ لأنه يقول: «مدد»! كلا الفريقين لم يدرك أنه عصفورٌ! تهمتُه الوحيدةُ هى الفن، الذى يشحنُ الناسَ بالطاقة على تغيير القبيح، حتى يصيرَ جميلاً.
هذا العصفورُ الذى عاش الزمن الجميل، انسحب من الزمن الردىء. أحبَّ النورَ الإلهى، وكره الأضواء الصناعية. عزف عن اللقاءات التليفزيونية والصحافية. وبعد إلحاح منّى، وافق على حوار وحيد لليوم السابع قبل عام. وبعدها، عاد إلى اعتكافه الرهبانىّ فى «مِقلاة» بيته بالنزهة، لا يبرحه. يسمع الموسيقى، ويقرأ الكتب، ويتابع الجرائد. ويقيم ندواتٍ فكريةً أسبوعية مع أصدقائه من كبار مثقفى مصر، هارباً من ضجيج زمننا المشروخ منذ الثمانينات.
سألتُه: «لماذا لمْ تحفظ تراثك فى أسطوانات»؟ فقال: «على الفنان أن يُبدعَ، أما حفْظُ إبداعِه فوظيفة آخرين». صدقت يا أستاذ.. وسوف نفعل.
أستاذى الجميل «محمد نوح»، أعلمُ أنكَ أغمضتَ عينيك على حزنٍ لما أصاب مصرَ. لكننا نعدك أنكَ ستراها حرّةً كما يليقُ باسمها العريق. فحلّقْ فى رحاب الله ما شاء لك التحليق، وسلامٌ عليك.