من بين القضايا الإنسانية التى شغلتنى كثيراً، وستظل تشغلنى طيلة حياتى، هى قضية «الاستعمار العلمى للعالم»، الذى تمارسه المراكز العلمية المتقدمة فى الغرب ضد الجنس البشرى كله، ولا أقول جديداً هنا عندما أؤكد أن «العلم» فى كل تجلياته، خصوصاً فى مجال الصحة وصناعة الدواء، لم يكن طيلة نصف القرن الماضى على الأقل، عالماً مستقلاً بريئاً من الهوى والسياسة، بل يكاد يكون الصحيح تماماً أنه تحول منذ عقود إلى تجارة فاحشة تحقق أرباحاً خيالية للمركز الرأسمالى المتوحش لا تقل حجماً عن أرباح تجارة السلاح، وهو الأمر الذى دفع كتاباً وعلماء مرموقين إلى وضع مؤلفات كاملة عن هذا المنحى الغادر لاستخدام العلم فى السيطرة على العالم، واستخدام تفشى الأمراض واحتياج الناس إلى العلاج وسيلة أساسية للتربح من بيع أدوية لا تحقق الشفاء التام أبداً، ولكنها تطيل عمر المريض حتى يظل «زبوناً» مستهلكاً لأكبر كمية من الأدوية التى تحتكرها عدة شركات دواء عالمية، لديها من أساليب السيطرة على كبار المسئولين فى دول العالم الثالث ما يفوق خيال الشيطان نفسه، ولديها من «أسلحة» تعطيل البحث العلمى فى هذه الدول ما قد يصل إلى القتل الغامض للعشرات من الباحثين، حتى لا يفلت آلاف الملايين من البشر المرضى من بين قبضة هذا الوحش العالمى.
ولا يكتفى هذا «الوحش الدوائى»، المتخصص فى تجارة المرض، بهذه الأساليب فقط لإطالة أمد سيطرته على «الزبائن»، ولكن هناك وسيلة أكثر خطورة كانت سبباً فى تعطيل البحث العلمى الوطنى وإعاقته عن التقدم، تحولت إلى عقيدة راسخة لدى طيف واسع من العلماء النجوم الذين تربوا فى مؤسسات علمية أجنبية، وهذه الوسيلة، كما يرصدها أستاذ الكيمياء المرموق فى السوربون «محمد العربى بوقرة» فى كتابه «العلم ضد العالم الثالث»، تقوم على إقناع العالم كله، خصوصاً العلماء المنتمين إلى دول العالم الثالث، بأن البحث العلمى والاكتشافات العلمية الجديدة تحتاج إلى أموال طائلة لا تتحملها أبداً غير الشركات العملاقة والدول شديدة الثراء، وأن أى اكتشاف جديد لا يستطيعه عالم واحد، فقد تعقدت الأمور إلى درجة تجعل من تطوير دواء قديم «صناعة» معقدة للغاية يعمل بها العشرات وربما المئات منفصلين لا يعرف أحد منهم ما الذى يفعله الآخرون المشاركون معه فى هذا التطوير، ولا ما هى الأهداف النهائية لهذا العمل!
وكانت النتيجة التى تعانى منها كل دول العالم، بما فيها الدول المتقدمة ذاتها، أن الاكتشافات الجديدة فى مجال الدواء تحديداً، أصبحت حكراً على شركات عملاقة تدير البحوث وتتحكم فيها وتشترى حقوق الملكية الفكرية وتحيط عمل مجموعات البحث بسرية مطلقة، وتحدد طريقة ومواعيد نشر الأخبار والملخصات فى الصحف بأسلوب بارع يعمق الإيمان لدى حتى العلماء أنفسهم بأن البحث العلمى لم يعد من اختصاص العلماء أنفسهم، وإنما هو إدارة وتمويل ومناورة لا تقدر عليها إلا هذه الشركات.
ومؤخراً خرج علينا الدكتور طارق حسنين، رئيس الفريق العلمى الذى اكتشف الدواء الأمريكى الجديد لفيروس الكبد، ورئيس مركز أبحاث أمراض الكبد فى جنوب كاليفورنيا، بتصريحات مدهشة تؤكد هذه القناعة الخرافية، حيث قال إن الشركة المحتكرة للدواء الجديد أنفقت عليه -حتى الآن- 11 مليار دولار، وإن تكلفة الدواء ستصل إلى 13 مليار دولار قبل أن تطرحه فى الأسواق بسعر 100 ألف دولار للمريض الواحد، وها هو يؤكد: «الشركة تريد أن تحصل على أضعاف هذا المبلغ قبل أن تفكر فى تخفيض سعر الدواء».
13 مليار دولار تكلفة دواء أمريكى جديد لفيروسات الكبد؟.. نعم، وهذا الكذب الممنهج والتفاهة العلمية الراسخة هما السبب فى رفض كثيرين لمجرد التفكير فى جدية الجهاز الجديد الذى أعلن الجيش أنه يعالج فيروسات الكبد وفيروس الإيدز.. فمتى نرحم أنفسنا ونرحم العالم كله من هذا الاستعمار العلمى الغادر؟