سيد قطب يكتب عن نجيب محفوظ: يمتلك قلباً يحب الوطن بالفطرة
1- كفاح طيبة
أحاول أن أتحفظ فى الثناء على هذه القصة، فتغلبنى حماسة قاهرة لها، وفرح جارف بها!.. هذا هو الحق أطالع به القارئ من أول سطر لأستعين بكشفه على رد جماح هذه الحماسة والعودة إلى هدوء الناقد واتزانه!!
ولهذه الحماسة قصة لا بأس من إشراك القارئ فيها:
لقد ظللت سنوات وسنوات أقرأ ذلك التاريخ الميت الذى نعلمه فى المدارس عن مصر فى جميع عصورها، والذى لا يعلمنا مرة واحدة أن مصر هذه هى الوطن الحى الذى يعاطفنا ونعاطفه ويحيا فى نفوسنا وأخلادنا بحوادثه وأشخاصه.
وظللت أستمع إلى تلك الأناشيد الوطنية الجوفاء، التى لا تثير فى نفوسنا إلا حماسة سطحية كاذبة؛ لأنها لا تنبع من صلة حقيقية بين مصر وبيننا، وإن هى إلا عبارات صاخبة، تلقى ما فيها من تزوير بالصخب والضجيج.
ولم أجد إلا مرة واحدة كتاباً عن مصر القديمة يبعثها حية فى نفوسنا، شاخصة فى أذهاننا ذلك هو كتاب المرحوم عبدالقادر حمزة «على هامش التاريخ المصرى القديم» ففرحت به مثلما أفرح اليوم بقصة كفاح طيبة، ودعوت وزارة المعارف إلى أن تجعله فى يد كل تلميذ وطالب بدل هذه الكتب الميتة التى فى أيديهم. ولكن تغيير الكتب فى وزارة المعارف أمر عسير؛ لأن مصنفيها هم مقرروها فى أغلب الأحايين.
قلت هذا كله فى عشرات المقالات، واليوم أتلفت فأجد بين يدى القصة والملحمة، كلتاهما فى عمل فنى واحد. فى «كفاح طيبة» فهى قصة بنسقها وحوادثها، وهى ملحمة. وإن لم تكن شعراً ولا أسطورة! بما تفيضه من وجدانات ومشاعر، لا يفيضها فى الشعر إلا الملحمة!
هى قصة استقلال مصر بعد استعمار الرعاة على يد «أحمس» العظيم، قصة الوطنية المصرية فى حقيقتها بلا تزيد ولا ادعاء، وبلا برقشة أو تصنع، قصة النفس المصرية الصميمة فى كل خطرة وكل حركة وكل انفعال.
تبدأ القصة عند «سيكننرع»، حاكم طيبة ووريث العرش الشرعى، فلقد لبث يهيئ الجيوش سراً ويستكثر من العجلات الحربية حتى بلغ جيشه عشرين ألفاً وعجلاته مائتين ووضع على رأسه التاج ولم يكن يعد نفسه حاكم طيبة بل ملك الجنوب.
وبعد عشرة أعوام فى الاستعداد وبناء العجلات الحربية يهبط «أحمس» حفيد الملك «سيكننرع» وابن الملك «كاموس» إلى أرض مصر فى زى التجار، يقدم لحكامها الذهب ليحصل على الرجال. الرجال الذين ذاقوا الذل والويل، ولكن نفوسهم ما تزال تغلى بالانتقام من الغزاة وتفيض بالولاء للأسرة المالكة المشردة.
وتتم الحيلة، وتفتح له الحدود، فيحصل على الرجال، ويتألف الجيش العتيد، ويهبط أرض الوادى، ويهزم الغزاة ويطاردهم إلى آخر شبر من الأرض المصرية فى هواريس، وتسترد طيبة ملكها وعرش مصر السفلى، وتعود البلاد حرة من جديد.. بيد أحمس بعد استشهاد والده، كما استشهد من قبل جده.
ذلك هيكل القصة ولكن القصص ليست هيكلها العام فأين العمل الفنى فيها؟
إن العمل الفنى هو الذى لا يمكن تلخيصه.. وقيمته فى هذه القصة لا تقل عن قيمتها القومية وهذا هو المهم. فقد يحاول الكاتب إثارة العواطف القومية وينجح، ولكنه ينسى السمات الفنية فيحرم عمله الطابع الذى يسلكه فى سجل الفنون.
إن كل شخصية من الشخصيات فى هذه القصة لهى شخصية إنسانية وشخصية مصرية فى آن، وإن كل موقف من مواقفها لهو الموقف الطبيعى الذى ينتظر من الآدميين المصريين.. وإن السياق الفنى لهو السياق الذى يلحظ الدقة الفنية بجانب الهدف القومى، بلا مغالطة ولا ضجة ولا بريق.
لم يحاول المؤلف أن يقلل من شجاعة الرعاة، ولا مميزاتهم النفسية، ولم يحاول كذلك أن يستر مواطن الضعف المصرية، وهى مواطن ضعف إنسانية، لم يجعل أبطال مصر أشخاصاً أسطوريين، ولم يجعل المصريين شعباً من الملائكة ولا من الشياطين. ومرة واحدة أو مرتين جاوز بهم طاقة البشر ولكن بعد تهيئة وتمهيد.
لهذا كله تسير الحياة سيرة طبيعية فى القصة، وتنبعث المشاهد شاخصة. لشد ما شعرت بالحقد الملتهب على الرعاة وحكامهم وقضاتهم، وهم يجلدون المصريين ويحقرونهم ويدعونهم استهزاء الفلاحين «ويبدو أن هذا اللقب هو الذى يتشدق به دائماً أولئك الأجانب المغتصبون فى جميع العصور من الرعاة إلى الرومان إلى العرب إلى الترك الأوروبيين وإن كان هؤلاء الفلاحون أشرف وأعرق من الجميع». لشد ما شعرت بالقلق واللهفة على مصير الجيش المصرى فى عدده القليل أمام أعدائه المتفوقين. لشد ما خفق قلبى وأحمس المتخفى فى زى التجار، يلقى الملك ويصارح القائد وينتفض للعزة الجريحة، ويمسك نفسه فى جهد شديد. لشدة ما عطفت عليه وهو يقع فى صراع أشد وأعنف من كل صراع حربى، ويجاهد نفسه بين قلبه وواجبه، فيؤدى الواجب على حساب قلبه الجريح.
ولم يكن الشعور القومى وحده هو الذى يصل نبضاتى بنبضات أبطال القصة، بل كان الطابع الإنسانى الذى يطبعها، والتنسيق الفنى الذى يشيع فيها، هما كذلك من بواعث إحساسى بصحة ما يجرى فى القصة، وكأنه يجرى فى الواقع المشهود، بكل ما فى الواقع من عقد فنية، وعقد نفسية ينسقها المؤلف فى مواضعها بريشة متمكنة، ويد ثابتة، تبدو عليها المرانة والثقة بمواقع التصوير والتلوين.
ولا أحب أن يفهم أحد من هذا أن مؤلف «كفاح طيبة» قد بلغ القمة الفنية فهذا شىء آخر لم يتهيأ بعد. إنما أنا أنظر إلى المسألة من ناحية خاصة.. ناحية تحقيق هدف قومى جدير بعشرات القصص والملاحم فإذا استطاع فنان أن يحقق هذا الهدف، دون المساس بالطابع الإنسانى والطابع الفنى، وبلا تزوير فى المواقف والعواطف، أو تزوير فى وقائع التاريخ، فذلك توفيق يشاد به بكل تأكيد.
قصة «كفاح طيبة» هى قصة الوطنية المصرية، وقصة النفس المصرية تنبع من صميم قلب مصرى يدرك بالفطرة حقيقة عواطف المصريين ونحن لا نطمع أن يحس المتمصرون حقيقة هذه العواطف، وهم عنها محجوبون.
ولقد قرأتها وأنا أقف بين الحين والحين لأقول: نعم هؤلاء هم المصريون، إننى أعرفهم هكذا بكل تأكيد! هؤلاء هم قد يخضعون للضغط السياسى والنهب الاقتصادى ولكنهم يجنون حين يعتدى عليهم معتد فى الأسرة أو الدين، هؤلاء هم يخمدون حتى ليظن بهم الموت، ثم يثورون فيتجاوزون فى ثورتهم الحدود، ويجيئون بالمعجزات التى لم تكن تتخيل منهم قبل حين. هؤلاء هم يتفكهون فى أقصى ساعات الشدة ويتندرون. هؤلاء هم تفيض نفوسهم بحب الأرض وحب الأهل، فلا يرتحلون عنهما إلا لأمر عظيم، فإذا عادوا إليهما عادوا مشوقين جد مشوقين، هؤلاء هم أبدا فى انتظار الزعيم، فإذا ما ظهر الزعيم ساروا وراءه إلى الموت راغبين.
هؤلاء هم المصريون الخالدون، هؤلاء هم ثقة وعن يقين.
لو كان لى من الأمر شىء لجعلت هذه القصة فى يد كل فتى وكل فتاة، ولطبعتها ووزعتها على كل بيت بالمجان، ولأقمت لصاحبها -الذى لا أعرفه- حفلة من حفلات التكريم التى لا عداد لها فى مصر للمستحقين وغير المستحقين!
مجلة الرسالة
العدد 586 - 25 سبتمبر 1944
أخبار متعلقة:
مصر بين «النجيب» و«الشهيد»
الأماكن التي مر عليها الاثنان: التغيير يسكن «الروح»
يوسف القعيد: لو كان نجيب يعيش بيننا الآن لأطلق جملته الشهيرة «أكتب ولا أعبأ»
ناجح إبراهيم: أدب محفوظ يبرز إيجابيات «الراقصة» ويصور «الإسلامي» كسولاً
صاحب «مكتبة مدبولى»: كنت أبيع «أولاد حارتنا» مهربة.. والآن أخشى «مرسي»
محفوظ عزام محامي سيد قطب لـ«الوطن»: «عبد الناصر» كان يناديه بـ«الأستاذ».. واختاره «مستشاراً» لمجلس قيادة الثورة
نجيب محفوظ يكتب عن سيد قطب: كان سعدياً متطرفاً قبل الانضمام لـ «الإخوان»
سلماوي: فهم الإسلاميين للأدب "قاصر".. وموت محفوظ عطّل وحيد حامد عن تحويل "أولاد حارتنا" لفيلم