ثورتان خلال عامين ونصف العام فقط، وآلاف القتلى والمصابين، وتلال من الحسرات والفواجع.. ورغم ذلك لا شىء يتغير فى هذا البلد، خصوصاً على صعيد الفساد والرشوة والنهب المنظم وانعدام الضمير.
منذ عام 2006 وأنا أتابع قضية فساد ضخمة فى عدد من القرى الفقيرة بمحافظة الغربية، تتعرّض أراضيها شديدة الخصوبة والتابعة للإصلاح الزراعى، لعملية نهب واستيلاء منظمة بواسطة عصابة تتكون من محامٍ متخصص فى هذا النوع من قضايا الغش والتدليس، وعدد من الأثرياء النافذين فى المحافظة، وبعض مسئولى الإصلاح الزراعى ومديرية الزراعة فى محافظة الغربية، وموظفة نافذة فى الهيئة العامة للإصلاح الزراعى بالقاهرة.
والحكاية التى أحتفظ بكل مستنداتها، بدأت عام 2005، عندما تقدم العشرات من أهالى قرى مركزى السنطة وقطور بمحافظة الغربية، بطلبات لمديرية الإصلاح الزراعى لشراء الأراضى التى يزرعونها منذ عام 1952، عندما استولت عليها الدولة ووزّعتها على المزارعين الفقراء، ووزّعت بعضها على المحاربين العائدين من حرب اليمن. وبعد ثلاثة أسابيع فقط من تقديم الطلبات فوجئ أهالى قرية «شنيرة البحرية» بالسنطة بعمدة القرية يخطرهم بضرورة مغادرة أراضيهم، لأن الدولة أفرجت عنها لصالح ورثة مالكها الأصلى، وسارع الأهالى إلى كل الجهات الرسمية، وبعد مماطلة وعمليات خداع ممنهجة اكتشفوا أن الهيئة العامة للإصلاح الزراعى بالقاهرة أصدرت فعلاً قرار الإفراج بتاريخ 12/7/2005 على مساحة 103 أفدنة، ونصت فى القرار على حق ورثة محمد صدقى إسماعيل فى تملك هذه المساحة ملكية طارئة لمدة عام من تاريخه، وأثناء البحث والتحرى عن مصدر هذه المصيبة تبين من الأوراق التى حصل عليها الأهالى أن موظفة كبيرة فى «الإصلاح الزراعى» وضعت اسمها واسم زوجها ضمن ورثة أملاك محمد صدقى إسماعيل المفرَج عنها.. وبالعودة إلى سجلات دار المحفوظات وسجلات «الإصلاح الزراعى» وكشوف الأطيان الزراعية القديمة اكتشف هؤلاء الفلاحون الفقراء أن هذه العصابة الإجرامية كانت على عجلة من أمرها، فلم تنتبه إلى أنه لا يوجد فى سجلات الملاك الذين صادرت الدولة أراضيهم بعد عام 1952 شخص يُدعى محمد صدقى إسماعيل، وتمكن الفلاحون من الحصول على مستندات أصلية تثبت أن الاسم الصحيح للمالك الأصلى هو محمد إسماعيل صدقى، وأنه مات هو وزوجته دون أن ينجبا، وأن أملاكهما التى تصل إلى أكثر من 600 فدان آلت بكاملها إلى الدولة.
لم يجد الفلاحون فى قرية «شنيرة البحرية» سنداً لهم فى مديرية الزراعة ولا فى «الإصلاح الزراعى» بالقاهرة، فلجأوا إلى القضاء، وكلما وكّلوا محامياً للدفاع عنهم وصل إليه الورثة الوهميون واشتروه، ثم استيقظوا ذات صباح على جريمة نقل الأرض من حيازة «الإصلاح الزراعى»، إلى سجل «2 خدمات» بجمعية الائتمان الزراعى بالقرية، وهو الأمر الذى يعنى إقراراً نهائياً بحق الورثة الوهميين فى ملكية 103 أفدنة فى الزمام التابع لهذه الجمعية، وضياع حقوق مئات الأسر التى تعمل فى هذه الأرض منذ عام 1952، واعتاد هؤلاء المساكين أن يشاهدوا أفراد هذه العصابة يتجولون فى القرية تحت حماية الشرطة والعمدة.
قبل ثورة 25 يناير 2011 ظلت شرطة الغربية تعمل لحساب هذه العصابة الفاجرة، وبعد الثورة اختفى أفراد العصابة، وعلى رأسهم المحامى المتخصص فى سرقة أراضى الدولة، ثم عاودت العصابة الظهور أثناء حكم الإخوان، واختفت مرة أخرى بعد ثورة 30 يونيو 2013 مباشرة، ومؤخراً عادت العصابة لتطارد الفلاحين بأوراق مضروبة، وعاد بعض الموظفين الكبار فى الغربية لتهديد الفلاحين بشىء جديد تماماً: إما أن تتركوا الأرض.. وإما أن نزج بكم إلى السجون بتهمة أنكم «إخوان».
هل يعرف الدكتور محمد فريد أبوحديد وزير الزراعة، أن قوانين الزراعة تمنع تماماً نقل الأرض من حيازة «الإصلاح الزراعى» إلى سجل «2 خدمات» بجمعيات الائتمان إلا بحكم قضائى نهائى؟.. إذن كيف تمكن هؤلاء الموظفون الفسقة والمرتشون من نقل الأرض إلى حيازة عصابة إجرامية، قبل أن يفصل القضاء فى النزاع؟.. والسؤال الأهم: هل تريدون أن نصحو ذات صباح على الفلاحين فى أبعديات «الإصلاح الزراعى» وقد خرجوا بالفئوس والمناجل وقطعوا رؤوس الموظفين الفاسدين ليرتاحوا من غدر الفسقة وبطء التقاضى؟