غداً تطيرُ أمى، ٥ سبتمبر من كل عام، تترك أمى غصنَ شرفتنا، وتطيرُ إلى حيث تطيرُ الأمهاتُ ولا يعدن. أول طيرانها كان عام ٢٠٠٨، ومنذئذ، أنتظرها كل صباح، تربت على كتفى، وتقول: «مش خايفة على أخوكى، خايفة عليكى إنت بس! هتعملى إيه من غيرى؟ إمتى بقى تتعلمى إن الحياة مش هى اللى بتقريها فى الكتب؟ الحياة مش مثالية والناس مش ملايكة زى ما انت فاهمة!». أمى سيدة واقعية، ترى الأمورَ كما هى، وتسمّى الأشياءَ بأسمائها، ترانى هشّةً لأننى أصبِغُ الواقع بألوانى، حين لا يروق لى اللون الأصلى، بوسعى أن أرى برجَ الكهرباء نخلةً، وأن أسمع فى صخب السيارات هديرَ بحر. تلك إحدى الحيل الذهنية التى يلجأ إليها مَن لا يتواءمون مع ما فى الواقع من شرور.
حين يرفضُ المرءُ الواقعَ، يسلك أحد ثلاثة سبل من التصفيات: 1. التصفية الجسدية؛ بالانتحار. 2. التصفية العقلية؛ بالجنون. 3. أو تصفية الواقع ذاته؛ بالفن. الرسامُ يخلق عالماً أجملَ على لوحته، الموسيقار يبتكرُ كوناً أرهفَ فى مقطوعته، والشاعرُ كذلك، يقتل الواقع القبيح، ثم ينحتُ فى قصيدته عالماً أكثر عدلاً ورحمة.
هذا ما أفعله لكى «أتعايش» مع عالم يفتقر إلى قيم أراها ضروراتِ حياة: العدل، الخير، الجمال، وهو ما تراه أمى جنوناً، لأن الذكاء يقضى بقبول الدنيا كما هى، والتعامل معها، ثم ترويضها. «المستحيل» كلمة غائبة عن قاموس أمى، لهذا لم أرها تبكى، لا أعرف شكل دموعها، فقط أعرفُ قوتها الهائلة التى مكّنتها أن تربى وحدها طفلا وطفلة، لتجعلهما طبيباً أكاديمياً ناجحاً، ومهندسةً معمارية ستتحول إلى الكتابة والأدب مع الوقت.
كنت أراها جبلاً، كيف لامرأة جميلة أن تكون جبلاً؟ وأنا صغيرة، وحينما قرأتُ الميثولوجيا الإغريقية، قبضتُ على أمى بين ربّات الأساطير، رأيتها «أثينا» حين تطفرُ حكمتُها، «آرتيمس» حين تخرج للعمل مثل رجل، وتعود إلى البيت لتحمى صغارها، «أفروديت» حين تتكسرُ أشعةُ الشمس فوق وجهها، «هيرا» حينما «تشخط» فىّ كى «أذاكر»، «هيستيا» حينما أغلقت علينا باب البيت لتربينا وحيدةً بعد رحيل أبى، لتدخل معجمَنا عبارةٌ جديدة: «أنا أمٌّ وأبٌ». وبحثت عنها طويلاً فى «يوفروسينى»، فلم أجدها، لأن أمى كانت نادراً ما تضحك.
كنت أراها أشد نساء الأرض بأساً، بل أكثرَ صلابةً من كلّ الرجال. مرةً واحدةً وحيدة، شاهدتُ انكسارَ أمى، كسرها «عمر»! صغيرى الجميلُ، حينما اكتشفنا إصابته بمرض «التوحّد»، رأيتُ دموعَها للمرة الأولى! تداعى الجبلُ أمامى وهى تنحنى تكاد تقبّل يدَ الطبيبة النفسية قائلة فى وهن: «عُمر هيخف، مش كده؟!».
ماما سهير، نامى مستريحةً، واذكرى «عمر» أمام الله، سامحينى أن أجرى طفلى دموعَك. وموعدنا غداً فى ذكراك الرابعة مع سورة «غافر» التى تُحبّينها بصوت المنشاوى. تحوّمين حول شرفتى يمامةً بيضاءَ، تحُطُّ برهةً فوق كتفى، تمنحنى القوة، ثم تطير.