تعلمنا فى كليات الهندسة ولازلنا نتعلم فى قاعات التدريس الجامعية كيفية البناء على أصول فن وتقنية وإبداع تشكيل الكتلة المبنية. كما يشمل ذلك التعامل مع المواد البنائية من طوب وخرسانة ونوعيات التكسية على الواجهات والأرضيات والتوصيلات الكهربائية وتغذية الماء والصرف الصحى وغيره فى دنيا المعمار، وذلك لمدة خمس سنوات أكاديمية.
ونحن سعداء بهذا التعلم، وفى نفس الوقت لست راضياً به، لماذا؟ انه يلقى فى عقولنا بالكثير من المعرفة والمعلومات، ولكن ينقصه توصيل فكر وسلوك العقل الناقد الى الدارسين الشباب. لماذا نتدارس فقط ذلك الجانب من المعرفة، ولماذا نُجبر أيضا على تعلم جانب آخر من العلوم، وما مدى استجابة الحياة المعاصرة لتلك المعرفة، وهل بتلك المعرفة وتلك المعلومات سوف تتطور حياتنا ومبانينا الى الأحسن والأكثر جودة؟ وما هى حدود المستقبَل المرئى والمُستشرَف؟ وهل نعمل على التوقع والاحتمالات ؟ وما هى المرادفات الأكثر توافقا؟ هذا هو العقل الناقد المفقود فى التعليم العالى.
هل نتواصل بتلك الكلمات وذلك الأسلوب مع من نلقنه العلم؟ وهل نقبل التخاطب الحر مع طلبتنا لكى نُكسبهم القدر الكافى بهدف المحاورة القائمة على المنطق؟ واذا كان ذلك متاحاً فأين الناتج الواضح من مبانى مؤثرة فى ثقافتنا، أين الحداثة الحقيقية فى وقتنا الحالى فى القرن الواحد والعشرين؟ يجب ان نعترف أن المد الواضح الذى مر علينا بالحداثة المقترنة بالقرن الماضى كانت بدايته من استحضار الرائد الراحل "سيد كريم" بعد رجوعه من سويسرا فى أربعينات القرن الماضى، وانتاجاته التى وضحت وقت الزعيم عبد الناصر فى مدينة نصر بالذات، وله الكثير المنتشر فى مصر وغيرها من البلاد العربية.
الراحل حسن فتحى على الجانب الإبداعى الآخر من الضمير المصرى الواعى أبدع فى عمارته وتجربته باستلهام البناء فى فلسفة وتشكيل استقاهما من التراث المعمارى فى صحراء الواحات الخارجة والتراث الفاطمى من أسوان ومساكن النوبيون حول بحيرة السد. ذلك أيضا حدث فى وقت ما من القرن الماضى معاصرا مع الراحل سيد كريم. ولقد تلقيت من كل منهما كثيرا من الفلسفات عبر اللقاءات التى كنت أذهب اليهم فيها. لقد كنت مستمعا لهما أكثر من متكلم. وتعلمت منهما أن الفكر الحديث لايرتبط بالشكل التقليدى المعتاد، بل يجب أن يخرج عليه كى يعطيه طابع الزمن، مع التأكيد على قيم التراث الأصيل فينا واحترام الأصول الإنشائية الفنية العلمية.
ماقيل أعلاه هو فى جانب يمثل 20% فقط من مجمل نشاط صناعة التشييد الرسمى فى بلدنا. أما الأهم فى الواقع فهو الجانب غير الرسمى من النشاط الذى يمثل حوالى 80% من صناعة التشييد. إنها "العمارة العامية"، إذا اقتبسنا كلمة "العامية" من اللغة اللفظية العربية. إنها المبانى التى لاتتبع شروط وقوانين الدولة المعترف بها. لها اقتصادياتها وآلياتها وناسها وغالبا هى كلها خارج القانون. المقاسات والأبعاد والعلاقات البنائية حره وغير مقيدة، وتستطيع تمييزها. لها أحيانا جمالياتها وابداعاتها، وأحيانا لها خطورتها غير المحسوبة.
أينما سرت فى مصر فانك تجد الابداعات العامية البنائية منتشرة بأشكال تبدأ بالمآذن الرشيقة جدا العالية التى قد تصل ارتفاعاتها الى حوالى 40 مترا، وهى منتشرة بكثرة فى منطقة الدلتا وخاصة حول بنها وفى محافظة القليوبية، وفى بعض المناطق فى القاهرة. إنها مبنية من الطوب والاسمنت فقط وليست فيها خرسانات أو حديد يسندها.
ولقد دعوت من يقوم بذلك العمل مرتين لكى نتعلم منه تلك المهنة العامية، أولهما فى الجامعة حيث كنت عميدًا ولكى يعلمنا كيف يقوم بعمله الهندسى المدهش، والثانية فى أحد ندوات المجلس الأعلى للثقافة لكى يطلعنا على أعماله. أما ماهو غير المآذن، ففى شوارع القاهرة تجد "غية" الحمام ـ وهى أبنية خشبية من غرف فوق بعضها ـ ترتفع فى رشاقة الى طبقات من التشكيلات الخشبية المتناثرة الملونه تعلو فى منسوبها المبانى السكنية المحيطة المبنية بالطوب والخرسانة.
وهى منتشرة فى عمران القاهرة بصورة ملحوظة وبأسلوب شيق يصعب استيعابه انشائيا. كما تجد العمارات العالية وحتى 14 و15 طابقا فى ارتفاعاتها فى المناطق التى يطلق عليها لفظ "عشوائية" والمنتشرة فى الغالبية العظمى من المدن المصرية البالغة عددها 230 مدينة. انها ـ تلك المبانى ـ صورة فذة من الاستغلال الاقتصادى للإنسان المصرى البسيط.
وأتذكر فى العامية اللفظية الكثير من أشعار الراحل صلاح جاهين الرباعية الشهيرة ،وفى إحداها:
"إمشى بخفة ودلع الدنيا هى الشابة وانت الجدع ـ تشوف خطوتك تعبدك لكن انت ان بصيت لرجليك تقع"
تلك اللغة العامية بها كثيرمن حِكَم الحياة وثقافتها ، لمّاحة ووضّاحة ببساطة لقدر كبير من الذكاء الدال على الضمير والوعى الانسانى. وأرى أن فن العمارة العامية يحوى فى معظمها نفس القدر من الذكاء الواعى لمتطلبات الحياة الانسانية وبعيدا عن القيود والقوانين المنظمة للمهنة الرسمية التى تعملناها فى الجامعة. تلك العامية فى البناء وجدناها فى سيوة، وفى القرى المصرية الأصيلة، وفى أبنية النوبة. وجدناها ومجّدناها فى العمارة التراثية فى مدن مصر كالقاهرة ورشيد وفوّه، فى أمثلة منها فى القاهرة: بيت السنارى وبيت زينب خاتون وبيت السحيمى وغيرهم الكثير.
تضيع حكمة تلك البنايات القليلة ـ إذا لم نلقى الضوء عليها ـ فى خضم الانتشار الكبير لما هو غير رسمى. وأعتقد أنه علينا أن نظهر ما هو نفيس وسط ذلك الزحام من الانشاءات، ونقيّمه وننفض غبار الإهمال عنه. فإن أشعارصلاح جاهين العامية لم تأخذ طريقها الخالد إلا بعد أن أعطاها حقها الكاتب الكبير الراحل يحى حقّى فى كتاباته عن العامية، كما أننا أحببناها وأحببناه. فقد مس قلوبنا هذا الانسان كما أثرى عقولنا ووعينا.