حسناً فعل الدكتور خالد منتصر بنشر الرسالة المهمة التى وصلته من أستاذ جراحة العظام، الدكتور يحيى نور الدين طراف.. وهى رسالة تحمل قضية خطيرة باتت تؤرقنا جميعاً، وتدفع البعض منا إلى فقدان الأمل فى أى إصلاح، بل وانعدام الرغبة فى بذل أى محاولة لتخفيف قبح الحياة فى هذا البلد.
والرسالة التى نشرها د. خالد منتصر، فى مقاله المنشور أمس بـ«الوطن»، تدور حول الأخبار اليومية التى تنشرها الصحف عن اعتداءات المواطنين على الأراضى الزراعية وإلقاء مخلفات المبانى على شاطئ النيل والزحف الرهيب للباعة الجائلين على شوارع العاصمة وأرصفتها، وغير ذلك من السلوكيات اليومية التى دفعت أستاذاً كبيراً إلى القول: إن عدو مصر اليوم هو أهل مصر أنفسهم!
واللافت أن د. خالد منتصر رصد فى تقديمه للرسالة أن ما صرح به الدكتور طراف «يعتمل فى نفوس البعض ويخاف من التصريح به حتى لا يُتهم بالتعالى على شعبه»، وهو رصد صحيح نمارسه عشرات المرات يومياً فى أحاديثنا ونسمعه من الآخرين، ولا نجرؤ عادة على التصريح به فى اللقاءات التليفزيونية أو الكتابة للصحف، ولا يكاد يوجد كاتب أو مفكر أو سياسى إلا ويقر بينه وبين نفسه أن أخطر ما يواجه مصر حالياً من تحديات هو انحدار سلوك الناس وانهيار أخلاقهم وشيوع الكذب والغدر والانحطاط الأخلاقى بين غالبية المواطنين وانتشار الفساد كالسرطان بين صغار الموظفين قبل كبارهم.
والمشكلة هنا ليست فى هذا الرصد، ولكنها تتمثل أساساً فى أن هؤلاء المواطنين الفاسدين والمنحطين أخلاقياً ومهنياً، هم أنفسهم الذين نزعم جميعاً أننا ندافع عنهم ونناضل من أجل تحسين حياتهم وإنقاذهم من الظلم الاقتصادى والاجتماعى والسياسى، ونطالب بتمكينهم سياسياً واقتصادياً، ونخوض معارك يومية من أجل حقهم فى التعليم الجيد والسكن اللائق والعمل المحترم والعيش الكريم والرعاية الصحية الجيدة... إلى آخر كل الحقوق والحريات التى تصون كرامتهم وتحمى إنسانيتهم، فكيف إذن، وبأى منطق سنطالب بكل هذه الحقوق لمن يقومون بانتهاك كل الحقوق يومياً؟ ومن أين نستمد الطاقة والحرارة لندافع بصدق عن هذه الذئاب المفترسة؟!
والحقيقة أن هذه القضية شغلتنى كثيراً على المستوى الشخصى عندما تراكمت خبراتى مع أناس عرفتهم وهم «ضحايا».. ثم ما لبثوا أن تحولوا إلى «جلادين» عندما انتقلوا إلى صفوف الإدارة العليا، أو غادروا «القاع» إلى القمة، وشغلتنى كثيراً عندما تيقنت من أن غالبية المقموعين يمارسون القمع على من هم دونهم، وأن غالبية المقهورين يدفعون عجلة القهر الطاحنة إلى الأسفل لتهرس من هم أضعف منهم، وفى لحظات كثيرة انتابتنى حالة فقدان يقين فى الجنس البشرى كله، وتمكنَت منِّى فى لحظات أخرى مشاعر لا مبالاة تجاه معاناة بعض الناس.. باعتبارها حالة عابرة، وأن صاحب المعاناة سيخرج منها ليمارس أبشع ألوان القهر والاستبداد والغدر ضد كل من يقع تحت يده!
ولكننى بعد سنوات من مراكمة الخبرات والقراءات، أيقنت أن فساد السواد الأعظم من الناس هو النتيجة الطبيعية لفساد إدارة شئون الحياة الممثلة فى الدولة ومؤسساتها، وأن الظلم الاجتماعى وسوء توزيع الثروة وانعدام تكافؤ الفرص والمساواة أمام القانون، هى المنبع الرئيسى لكل مفاسد الناس العاديين، وانتهيت إلى أننا نرتكب خطيئة لا تُغتفر إذا انتظرنا من شاب تعرض للتعذيب فى قسم شرطة أن يكون شخصاً فاضلاً أو رحيماً، أو إذا انتظرنا من شاب فقد وظيفة يستحقها بسبب نجل مستشار أو وزير أن يكون «عادلاً» أو شريفاً فى سلوكه.
والخلاصة -التى أعتقد فى صحتها- أن الفساد يخلق مجتمعات فاسدة من قمتها إلى قاعدتها، وأن الضحايا يرثون صفات الجلادين وأن الذين فقدوا الأمل فى استعادة حقوقهم عن طريق القانون، يندفعون كقطعان سائبة فى كل اتجاه ويدمرون ما يقع تحت أيديهم لمجرد الفوز ولو بعود ثقاب من بقايا تخريب غابة أشجار كاملة، ولهذا ينبغى أن نناضل أكثر وأكثر ضد غياب القانون فى تصرفات الكبار، وانعدام العدالة الاجتماعية فى سياسة الدولة، وغياب الرحمة وضمور الأخلاق فى وجدان رجال الأعمال الأقوياء.. وعندئذ سنكتشف أن الحياة فى مصر أصبحت أكثر أخلاقاً وأقل قبحاً.