بهدوء واثق، عرض الرئيس الفلسطينى محمود عباس، أبو مازن، خلاصة آخر «حلقة» فى مسلسل «مفاوضات السلام»، الذى لا تظهر له أية بشائر فى الأفق، بين إسرائيل التى تحتل فلسطين، وبين الشعب الفلسطينى، الواقع تحت الاحتلال.. وتسمع دعوات تثير الدهشة أو الاستنكار، حسب انتمائك، من جانب الولايات المتحدة، التى نصبت نفسها راعية لمفاوضات سلام مستحيل إلى «الطرفين!!» بتقديم «تنازلات!» للتوصل إلى حل «للنزاع!!».. ماذا تبقى فى جعبة الفلسطينيين للتنازل عنه؟ الجواب معروف، ولكنى استنتجت من كلام أبومازن ومن أحداث السنوات والأشهر القريبة الماضية أن وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى قد أكد لرئيسه باراك أوباما أن كلمته فى الكنيست الإسرائيلى، التى أصدر خلالها فرماناً أمريكياً باعتبار القدس الموحدة العاصمة الأبدية للدولة «اليهودية»، فى طريقها إلى التنفيذ، وهو ما لا يتطلب جهداً أكثر من دعوة الطرفين، الإسرائيلى والفلسطينى، إلى جولة جديدة من المفاوضات.. توهم البيت الأبيض أن اللحظة مواتية لانتزاع «شهادة الوجود» الوحيدة، المعتمدة، التى تحتاجها إسرائيل، والتى لا بديل عنها، بدءاً من القنبلة النووية، مروراً بالمساندة الأمريكية لكل جرائم تل أبيب ووصولاً إلى مواصلة مخطط اغتصاب ما يتبقى من الأراضى الفلسطينية وتهويدها، وهى «الاعتراف» الفلسطينى «بيهودية إسرائيل»، بكل تداعيات هذه الجريمة العنصرية الفريدة فى العصر الحديث، والأدهى أنها جريمة تفتح الأبواب على مصاريعها، أمام دولة الاحتلال لاغتصاب المزيد من الأراضى، حتى التهام كامل فلسطين، ثم الشروع فى الزحف نحو الهدف التالى. ومعروف أن إسرائيل لا تعترف بأى من قرارات الأمم المتحدة، إلا ذلك الذى أعطاها ما يقرب من نصف الأراضى الفلسطينية عام ١٩٤٨، وكأنه مجرد نقطة انطلاق إلى الإمبراطورية الممتدة من الفرات إلى النيل، وهو ما يفسر رفض إسرائيل وضع خريطة لحدودها حتى اليوم، وأوجز كيرى، لأبومازن، فى اعتقادى، الخيالى، «دقّة» وضع أوباما، و«يهون عليك يا أبومازن إن كلمة أوباما تنزل الأرض؟»، وقد تعودت الولايات المتحدة، حامية الديمقراطية، أن تنتزع اعتراف القادة العرب بما يخدم مصالحها، ولتخبط شعوبهم رؤوسها فى كل حوائط الوطن العربى.. مارست واشنطن ضغوطاً رهيبة وخانقة على أبومازن لحمله على وقف خطواته باتجاه انضمام فلسطين إلى عدد من معاهدات واتفاقيات الأمم المتحدة لبقاء الشعب الفلسطينى منزوع السلاح وفريسة سهلة تستفرد بها إسرائيل، وبدون، ولو مساندة رمزية وأدبية من منظمات المجتمع الدولى!! وذُهل كيرى، كما ذُهل رئيسه من قبل، برفض أبومازن إصدار صك شرعية إسرائيل، والأدهى، باعتبار الفلسطينى مواطناً من الدرجة الثانية، أو حتى العاشرة، فى «الدولة اليهودية!» وهو ما يؤكد أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تدرك معنى حق الشعوب فى العيش «بكرامة» داخل أوطانها.. جاء رفض أبومازن للضغوط الأمريكية وللابتزازات الإسرائيلية بمثابة صفعة جديدة على وجه السياسة الأمريكية التى تواصل سياستها السابقة على ثورة يونيو.. ولو توقفت قليلاً أمام شعارات ثورتى يناير ويونيو لتأكدت من وجود ما هو أقوى وأمضى من كل ما فى ترسانتها من أسلحة، وهو سلاح الإرادة فى «عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية». صحيح أنها مفردات تخلو الصفحة العربية، فى القاموس الأمريكى، منها، ولو بذلت أجهزة المخابرات الأمريكية جهداً صغيراً فى قراءة التاريخ العربى لأدركت أن إسرائيل مآلها، بتركيبتها العنصرية البغيضة، إلى زوال، وعندما ذكّرت أبومازن بكلمات سميح القاسم «مجنونة هى الجزيرة التى تعادى المحيط» ابتسم وردّ بأن إميل حبيبى قال كلاماً بنفس المعنى.. واندهش الوزير الأمريكى من صمود أبومازن وعدم خضوعه للضغوط الأمريكية الثقيلة لسبب بسيط هو أن أمريكا لم تكن يوماً مع الحقوق المشروعة أو المبادئ الإنسانية، بل كان اعتمادها، فى الأساس، على قوتها العسكرية وما بها من أسلحة فتاكة، تضاءلت قدرتها على الترويع عندما أشهر أبومازن فى وجهها بهدوء الواثقين سلاح الإرادة الذى لم تتوصل، ولن تتوصل «عقول!» الأعداء إلى سلاح مضاد له!! ولكن من أهم ما يجب التوقف أمامه فى تقديرى، هو إدراك إسرائيل لهشاشة وجودها دون «شهادة ميلاد» عليها الختم الفلسطينى، وقد رفض أبومازن منحها مستند الشرعية، ومن ورائه شعب فلسطين وكل الوطن العربى.. فالتزوير لا ينشئ ولا يقرر حقوقاً أو.. شرعية!