تعال ونحن نتحدث فى مبحث «ثقافة النهضة» نسأل: هل من الممكن أن يستقيم العقل المشبع بفكرة النهضة مع مبدأ الطاعة؟
بعبارة أخرى: هل العقل الذى تربى على الانصياع والتسليم يمكن أن يملك رؤية أو قدرة على النهضة؟ الإجابة بـ«الثلث» لا!! لا سبيل لنهضة عقل تربّى على السمع لغيره، وطاعة ما يؤمر به من بشر مثله، لديهم عقل لا يزيد عن عقله شيئاً. «العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس» كما يقول ديكارت.
فعقول «السمّاعين المطيعين» أعجز ما تكون عن الإبداع أو الاكتشاف، فهم عمى وإن كان لها عيون، وصم وإن كان لهم آذان، وبُكم وإن كان لهم ألسنة. العقل الذى استسلم لفكرة الطاعة يفتقر إلى الفضول الذى ينبغى أن يتوافر فى ثقافة «الإنسان الناهض»، حتى ولو مثّل الفضول نوعاً من المعصية للإملاءات التى تأتيه من حوله، بهذا الفكر تمرد أنبياء الله على مجتمعاتهم ورفضوا الخضوع لسلطة الآباء والأجداد، وبشّروا بما هم عليه من الحق. فهؤلاء جميعاً سكنت فيهم بذرة آدم عليه السلام الذى دفعه الفضول ذات يوم إلى أن يأكل من الشجرة التى نهاه الله عنها، فكان جزاؤه الطرد من الجنة، ولكن الله تعالى غفر له بعد ذلك. فقد كانت معصية آدم «معصية فضول»، وليست «معصية تحدٍّ» لله عز وجل، النوع الثانى من المعصية مارسه إبليس، عندما عصى الله تعالى متحديا، فباء بغضب الله.
لقد أراد آدم أن يكتشف سر النهى عن الأكل من تلك الشجرة، لذلك غفر له الله، وأعطاه ونسله المنهج (الهدى) الذى يمكن أن ينجيه من ضنك وشقاء الأرض، هذا الهدى هو ما جاءت به رسالات السماء على لسان أنبياء الله. والقرآن الكريم يحرّض على التفكير والبحث والسعى والاكتشاف «قل سيروا فى الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق». بهذا السعى والرغبة العارمة فى الاكتشاف، وعدم الاستناد إلى سلطة أب أو جد أو كاهن أو مرشد، استطاع نبى الله إبراهيم أن يكتشف ربه دون وحى، حينما أخذ فى البحث فى ملكوت السموات والأرض، حتى يتعرف على خالقه، فمرة يقول القمر، ومرة يقول الشمس، حتى وصل إلى الحقيقة الخالدة «وجهت وجهى للذى فطر السموات والأرض حنيفاً مسلما»، لذلك لم يكن من عجب أن يصف الله تعالى نبيه إبراهيم بالأمة «إن إبراهيم كان أمة»، كما لم يكن من العجيب أيضاً أن يوصف بـ«أبى الأنبياء». كل ذلك لأنه بحث واكتشف ونقّب وفتّش، وتمرد على سلطة قومه، وعصى آباءه وأجداده، ودفعه الفضول إلى البحث فيما حوله حتى اهتدى إلى الحقيقة.. ذلك هو «عقل النهضة».. و«عين العقل» أيضاً!