النهضة عقل غير نمطى.. طيب: ما العقل النمطى؟ إنه العقل المربوط فى قضبان قطار لا يملك السير فى غير الاتجاه الذى تسير فيه القضبان، لا يستطيع أن ينحرف يميناً أو يساراً، وإلا انقلب. مثلاً.. عقل المهندس نمطى حين يفكر فى الهندسة، فلا يمكن أن يكون حاصل جمع واحد زائد واحد - فى نظره- إلا اثنين، فهو عقل مربوط بنظريات العلم، وعقل الطبيب نمطى حين يفكر فى الطب، فيتعامل مع الأعراض، ويصف لها الدواء كما يقول كتاب الطب. وقس على ذلك! فالعقل النمطى عقل جامد لا يستطيع أن يفكر خارج الصندوق.
فى الغرب على سبيل المثال عندما يريدون تطوير أى منتج لا يبحثون عن العلماء والمتخصصين والفنيين الذين يسهمون فى إنتاجه، بل يعتمدون على خيال البشر العاديين، فإذا أحبوا مثلا تطوير التليفزيون لا يلجأون إلى علماء التكنولوجيا أو الإعلام أو الخبراء والفنيين العاملين فى إنتاج أجهزة التليفزيون، بل يذهبون إلى المشاهد العادى ويسألونه: ما الإضافات التى تحب أن تجدها فى هذا الجهاز؟ فيقول أحدهم: أريد أن تنقسم الشاشة إلى نصفين كل نصف يعرض قناة، بحيث أستطيع المشاهدة على قناة، ويستطيع أحد أفراد الأسرة مشاهدة قناة أخرى، ويقول آخر: أريد أن أشعر وأنا أشاهد أننى داخل الحدث وجزء منه، فإذا كان المشهد فى غابة أشعر أننى داخلها مع الأبطال.. وهكذا، ثم يأتى العلماء والخبراء ليترجموا هذه الخيالات إلى واقع.
ويصح أن نقول إن عقول النخب السياسية والفكرية التى عاشت شبابها ورجولتها خلال الأعوام الثلاثين الماضية أصيبت بقدر لا بأس به من الجمود الذى يعرقلها عن امتلاك خيال لوضع خطة نهضة؛ لأنهم مقيدون بأفكارهم النظرية النمطية، وأسرى تجربة الفساد التى عشناها طيلة السنين الماضية، سواء كانوا جزءاً من الحكم أو المعارضة. هذه النخبة لن تستطيع بحال أن تفكر خارج هذا الصندوق، الأفضل لمن يريد النهضة اللجوء إلى الناس العاديين. فهؤلاء أحرار من كلام الكتب والنخب، ويملكون القدرة على كسر النمط، وخيالهم أكثر خصوبة من الخيال الجامد للنخب.
منذ عدة أسابيع عرضت إحدى القنوات الفضائية تقريراً عن سيدة تعيش فى منطقة عشوائية قامت بتجربة شديدة الإثارة، حيث صنعت حوضاً كبيراً من البلاستيك، وملأته بالماء، ونقلت الكاميرا مشهدا لأطفال صغار يغطسون فى الحوض وهم فى منتهى السعادة والمرح، فى حين اصطف آخرون لدفع «نصف جنيه» للسيدة ليلحقوا بدورهم فى السباحة! تلك السيدة فكرت خارج الصندوق فأكلت «لقمة عيشها» بفكرة مبتكرة، وفى الوقت نفسه منحت الصغار متعة يحلمون بها! تلك السيدة تمتلك فكراً نهضوياً قد يفوق فكر بعض النخبويين!