ما إن يتطرق أحد لتفسير أسباب التطورات السلبية التى نشهد نتائجها الآن فى مصر، إلا وتنطلق ألسنة «الحكماء» بإغلاق صفحة أو صفحات الماضى والتركيز على الحاضر وكذلك المستقبل.. وكأن ما دفع المصريين إلى الثورة مرتين فى أقل من ثلاث سنوات، ليس هو تحديداً حصيلة سنوات قد يختلف الرأى حول تقييمها واللاعبين الرئيسيين فى الوصول إليها، ولكن هناك شبه إجماع بأنها، فعلا، حصيلة بالغة التعاسة.. ووسط هذا الجدال الزاعق والمقلق، تستمر محاولات حرف الانتباه عن الجذور الحقيقية، التى أوصلتنا إلى استشراء الأفكار الغريبة الوافدة، و«الاجتهادات» الاقتصادية والفكرية، التى كانت تصب كلها فى قناة واحدة، هى فى تقديرى تقزيم الدور المصرى!! ومن الأهمية بمكان أن نعرف أن أعداء الدور المصرى لا يعرفون، ولا يعترفون، بشعارنا الأثير «عفا الله عما سلف» ولكنهم يواصلون ذات المساعى، ولا يغيرون سوى الوسائل والأدوات على اختلاف وظائفها وقدرتها على التأثير فى «إغراق» القارب.. فقد تعددت أشكال العدوان العسكرى على مصر على مدى العصور، منها الموغل فى القدم ومنها الحديث والمعاصر.. وكذلك تنوعت الأسلحة «الفكرية» وفى المقدمة منها سلاح «الدين»، وهو فى اعتقادى السبب الجوهرى فى إنشاء إسرائيل وبعدها بسنوات قليلة إنشاء جماعة الإخوان المسلمين.. أى أن المتربصين بمصر الموقع والدور، لم يتوقفوا أبداً عن محاولات تحقيق هدفهم، أو على الأقل تحقيق ما يمكن منه.. غير أن العقود الأربعة الأخيرة قد شهدت هجوماً مكثفاً وشرساً، بدأ بتحجيم حركة مصر وإخراجها من معادلة الصراع العربى الإسرائيلى باتفاقية الصلح المنفرد مع إسرائيل، بالتزامن مع نسف مكتسبات ثورة يوليو وفى القلب منها العدالة الاجتماعية، والتى يكفى ما حققته فترة الستينات من بناء، خاصة فى مجال التصنيع، لمعرفة ما يمكن أن يؤتيه الشعور بالعدل بين مختلف الطبقات من ثمار، استعصى بعضها على الإنكار أو التشويه أو الهدم أو البيع، مثل السد العالى وعودة قناة السويس إلى حضن الوطن، وآلاف المصانع الكبيرة مثل الألومنيوم والحديد والصلب، وكذلك المتوسطة والصغيرة.. وتزامنت مخططات لتغيير هوية مصر وذبح ثقافتها، لاقتلاع جذور قوتها الناعمة وتأثيرها على كل الوطن العربى.. تم الترويج لوهم الرخاء مع ما سُمى بالانفتاح الاقتصادى، فازداد الفقراء فقراً وتضخمت صفوفهم بالمزيد من هؤلاء المطرودين من شريحة الطبقة الوسطى.. انقضّت جماعة الإخوان، بالتواطؤ مع الدولة، على الأغلبية الساحقة من المصريين، فغيرت المناهج التعليمية، ونموذج المرأة أو الرجل، بأزياء غريبة على الوطن، وهو فى اعتقادى أسلوب فى غاية الدهاء، للفرز الطائفى فى الشارع، ويكفى إلقاء نظرة على مدارس الأطفال للتثبت من ذلك.. وبنفس الدهاء تركز خطاب المطلين على المشاهدين، من قنوات عديدة، سُميت -لا أدرى بأى منطق أو حق- قنوات دينية، على الجنس. فالشرف هو الجنس والجنس فقط دون غيره من القيم والمبادئ التى يحض عليها الإسلام وكل الأديان.. ومن هنا، أستغرب استغراب من يرون انتشار جرائم «جنسية؟!» لم يسبق لها مثيل فى بلادنا، ومن أبشعها جريمة الطفلة ميادة، التى قدمتها أمها، وبئس الأم، بل وبئس الكائنة المفروض أنها بشرية، إلى عشيقها، لأن جنابها كان لديها مانع، يحول دون إرواء عطش عشيقها الوضيع وشراهته الجنسية وانعدام أى شعور إنسانى لديه.. وفى نفس الوقت، تتعالى أصوات بصدد فيلم «حلاوة روح»، الذى لم أشاهده، يفرد الإعلام مساحات واسعة، لمختلف الآراء بصدد منع الفيلم، فى زمن لم يعد باستطاعة أحد منع أى شىء، والذى سُمى، فى غيبة حراس الفضيلة لدينا، بعصر السموات المفتوحة، وكأن هذا الفيلم هو كبيرة الكبائر فى بلد لا تحدث فيه جرائم من كل الأصناف يومياً، وكأن مأساة ميادة، التى كان مفترضاً أن تكون زلزالاً قوياً يدق ناقوس الخطر، قد حدثت فى الكوكب «التوأم» الذى اكتشف مؤخراً، وليس على كوكب الأرض، وتحديداً فى مصر.. إنها سياسة النعام، بدفن الرؤوس فى الرمال، والهروب السهل والأسهل من مواجهة الواقع والتصدى للمشاكل من الجذور.. أسجل فقط ملحوظة بسيطة: المرأة التى أنجبت ميادة، ولا أقول الأم، كانت ترتدى إسدالاً أفغانياً!! والأب الذى «اعترف» باغتصاب طفلته «زوراً» خوفاً على حياته بعد تهديد المرأة وعشيقها، كان ملتحياً.