استجابت «سلوى» لإلحاح صاحبتها التى أصرَّتْ على لقائهما فى المساء، فوافقتها مضطرةً، مع أنها كانت تودّ إرجاءَ اللقاء إلى غدٍ أو إلى موعدٍ غير محدّد.. جاراتها، وزميلات الدراسة والعمل، وصاحباتها القديمات والجديدات، صرن يتوافدن عليها فى تلك الأيام المزدحمة ساعياتٍ إلى الجلوس معها كى تستمع إليهنَّ، لأنها حسبما يؤكِّدنَ تُجيد الاستماع وتُشير عليهنَّ دوماً بأفضل الآراء. مع أن «سلوى» لا تُبدى بعد الاستماع أو خلاله أىَّ رأى؛ فهى تسكن فى جلستها وتهزُّ رأسها للحاكية كأنها تتابعها باهتمام، فتكون فى تلك الجلسات مثل كاهنٍ يسمع اعترافاتٍ فقدت قدرتها على إثارة الدهشة وإشاعة الأنس الذى صار مستحيلاً.
على درب الملل، مَرَّ على «سلوى» أوانُ العصر ثقيلَ الأنفاس. لم يبقَ على موعد مجىء صاحبتها «إلهام» إلا ساعتان أو أقل قليلاً، وقد انتهت من إعداد صالة بيتها لأمسيةٍ حكائيةٍ قد تمتدُّ من أول الليلة إلى منتصفها، فلم يعد أمام «سلوى» ما تفعله لتحتمل سُخف الانتظار. ولمّا استبدَّ بها السأمُ استلقتْ على ظهرها، فوق سريرها، انتظاراً لوصول ضيفة الأمسية، وأملاً فى اختطاف سويعة نعاس، وتلافياً لارتداء الفستان المعلَّق خلف الباب مدةً أطول. على تلك الهيئة المسترخية، غير المستريحة، طوَّفتْ بها الأفكارُ حتى أخذتها منها خواطرُها الدافقة، التافهة، فسألتْ نفسها فى سرِّها: لماذا لم أبدِّل اللمبات الثلاث «المحروقة» فى هذه النجفة؟ لا يهم، ولا داعى للعجلة؛ فأنا لا أحب دخول الكهربائىّ غرفة نومى، ولا أطيق شعورى بأن رجلاً يتحرك فى فضائى الليلىّ وحدودى المنامية. وتبديل اللمبات ليس أمراً صعباً، يمكننى إرسال «البواب» لشراء لمباتٍ وأفصلُ عن أسلاك الشقة الكهرباء، وأقفُ على قائم السرير فأُبدِّلُ الجديدة بالمحروقة. لا داعى أصلاً للعجلة، فضوءُ هاتين اللمبتين الباقيتين من الخمس أهدأُ وأنسب لغرفة نومى الحاضنة، الضيّقة. اللمباتُ صارت قصيرة العمر، على غير المعتاد، ولعل هناك عطباً ما فى أسلاك «النجفة» يحتاج إصلاحاً. وقد يحوجنى ذلك إلى إتاحة حصنى لاقتحامٍ مسموحٍ به.. مضى وقتٌ طويلٌ على آخر مرةٍ دخل فيها رجلٌ هذه الغرفة، ومنذ شهور لم تسبح أنفاسٌ ذكورية فوق ملاءة سريرى، ولا أرانى أفتقدُ شيئاً مهمّاً. نعم، يمكن للمرأة أن تستغنى عن الرجال إلى حينٍ قد يطول. الصاحباتُ، اللواتى قررن أن أكون لهنَّ نعمَ السميع، يشغلن أوقاتى المفترض إشغالها بالبحث عن شغلٍ جديدٍ بعد استقالتى المتعجّلة من عملى السابق، السخيف، الذى ما عاد مُحتملاً. أجهد روحى شهوراً، وأنهك أنحاء جسدى بالتوتُّر الدائم، حتى استرحتُ حين استقلتُ منه. لو كان بيدى رصيدٌ كافٍ، لما اضطررتُ للبحث عن وظيفةٍ أخرى وعشتُ مستمتعةً بوحدتى النهارية وجلسات الصاحبات الحاكيات مساءً.. ستأتى «إلهام» بعد قليل وتحكى مثلما تفعل الأخرياتُ. تُرى، أىُّ رجل سيكون محور حكايتها؟ وأىُّ مللٍ سوف تثيره فى أنحاء روحى؟ حكاياتُ صاحباتى تدور غالباً حول الرجال، ومعظمها يبدأ باحتيالٍ مكشوفٍ يغوصُ فى تفاصيل حياتية حقيرة، أو يحلِّق فى آفاق بعيدة، ثم يحطُّ فى ختامِ التطوافِ عند رجل.
للرجال فى حكايات النساء وجوهٌ لا حدَّ لها؛ فآونةً يكون الرجلُ هو الحبيبُ غير الملتفت؛ لأنه يلتفت لامرأةٍ أخرى أو يتلفَّت إلى كل النساء. وآونةً هو زميلُ العمل المستهدَف لزيجةٍ، لكنه يجتهد كى ينفلت منها وتجتهد الحاكيةُ لإقناعه بها. وآونةً هو المديرُ، الحنونُ عند اللزوم أو المتحرِّشُ تلميحاً بالنظرات وتصريحاً بالعبارات متعددة المعانى. وآونةً هو الرفيق السابق الذى نقم بلا سببٍ، أو بسببٍ لا يرقى لكل هذه النقمة، والعجيب أنه من بعد ذلك صار معذَّباً بالابتعاد أو مشتكٍ من شدة الاقتراب. الرجلُ هو البدءُ والمنتهى، والمدارُ، واللاعبُ الملعوب به، وهو فى معظم الحكايات الشاكية وضيعٌ.
■ ■ ■
صدح جرسُ الباب فى تمام السابعة مساءً، فألقت «سلوى» عليها فستانها واستقبلت باسمةً صاحبتها «إلهام» الساكنة قُربها فى شقةٍ صغيرة، لا تبعد إلا دقائق معدودات سيراً على الأقدام فى غبار الشوارع. كانت «إلهام» زميلتها فى المدرسة طيلة سنواتٍ انتهت بالافتراق المؤقّت، لاختلاف الدراسة الجامعية. ولما قابلتها صدفةً قبل أربعة أعوام، عاد الوصالُ وتكرَّرت اللقاءات فاتصل ما كان قد انقطع خلال سنوات الابتعاد العشر، والتحمتْ بالحكايات الحياتانِ حتى ظنَّت كل واحدةٍ منهما أن الأخرى صديقتها الأقرب. على الترتيب الواجب، قامت «سلوى» بكل ما عليها القيام به تجاه «إلهام»؛ فأظهرتْ لها أولاً الترحيب المُحتفى بالزيارة، وبالابتسامات أجلستها على كرسيها المُفضّل فى الصالة، وبينما تصبّ لها الشاى استفسرتْ عن جديد أحوالها. وعلى الترتيب المُتوقّع، أعربتْ لها «إلهام» أولاً عن المحبة التى تجعلهما مثل أُختين، ثم اعتذرتْ عن انقطاعها عنها الأيام الماضية بسبب ما سمَّته الشديدَ القوى، وتهيّأت للحكى بإسالة دمعاتٍ كفيلةٍ بجذب الاهتمام، ثم قالت ما فحواه:
خلاص يا «سلوى»، أنا تعبتْ وما عدتُ أحتمل هذا الحال ولا أعرف كيف أتصرّف. زوجى خدعنى من اليوم الأول، وامتصّ رحيق روحى طيلة السنوات العشر الماضية. أقنعنى بأنه يُحبنى، وكنتُ أحتاجُ هذا الاقتناع فآمنتُ بكل وعوده، وفى أيامنا الأولى عشتُ معه أهنأ اللحظات ولم أشكُّ يوماً فى صدق مشاعره، الفيّاضة، وصدّقتُ ما كان يصفنى به وأحببتُ وصفه لى بأننى نورُ عينيه ومنتهى أمله فى هذه الحياة.. كان يا «سلوى» يقولُ لى إنه كان كالميت حتى ألتقى به، ومعى عرف معنى الحياة وأدرك سببها، فقد خلقه اللهُ من أجلى فقط وجعله المسئول عن إسعادى. كان يا «سلوى» يهمسُ قُرب أذنى بأننى المرأة الوحيدة فى حياته، وبأنه لم يعرف قبلى النساء ولن يعرف واحدةً منهنَّ بعدى، وبأننى كُلُّ النساء. جعلنى أفرحُ بأحاديثه الليلية الهامسة، وأعتاد عبارته النهارية. قبلتُ به زوجاً، وهو الذى لم يكن يحلم بمثلى. واجتهدتُ له وجاهدتُ فيه حتى جعلته سعيداً بعدما كان تعيساً، وصار معى مرموقاً، وهو الذى لم يكن قبلى شيئاً مذكوراً. أهذا جزائى؟ لقد أقنعنى بأنه سيكون لى نعمَ الصاحب طيلة العمر، وسوف يصير لى خير رفيق. وقال مراراً إنه سيترفَّق بى دوماً، ولن يشتدّ إلا عند حمايتى. امتلأتُ به فلم أرَ إلّاهُ. وفى بداية حياتنا معاً، عايشتُ أوهامَ الأمان التى شعرتُ بها فى حضنه الحانى، وتوهّمتُ أنه هديةٌ لى من السماء، حتى صدمنى اليوم بحقيقته المفزعة. كان يحتالُ علىَّ يا «سلوى» وكان يكذب فى كل كلامه، كى ينال منى ما استولى عليه: أرضى الواسعة، وخيراتها، وثمار حدائقى، وأحلامى المستحيلة، وأموالى.. وعدنى بحياةٍ هانئةٍ هادئة، فوهبته روحى وكل جوانحى لأننى أحببتُ أن أَحِبَّ وأُحَبَّ، وسكنتُ إليه لأننى تمنّيتُ الأمان. ولمّا تولّى أمورى كلها، رمانى، مثلما يرمى الرجالُ النساء اللواتى بلا مالٍ ولا جمالٍ وانصرف عنى بقلبه وعقله، حتى صرتُ اليوم أراه حقيراً وهو الذى كان عندى أعظم العظماء.
ماذا أفعل الآن يا «سلوى» وقد فات الأوانُ؟
■ ■ ■
اتّسعت عيناها دهشةً، فظلّت صامتةً وهى تنظر بذهولٍ إلى «إلهام» التى بقيتْ تحكى وتحكى بمرارةٍ مؤلمةٍ، ولمّا انتصف الليلُ أجهشتْ.. ساد صمتٌ أسودُ الأجنحةِ، واحتارت «سلوى» ثم امتلأت من صاحبتها رهبةً، وتنازعها خوفٌ منها وخوفٌ عليها.
فى خاتمة الأمسية، لم يكن أمام «سلوى» إلا سبيلٌ وحيد، هو التسليمُ بقَدَر الله والاعترافُ لنفسها بأن «إلهام» تدهورت إلى حدٍّ لا رجوعَ من عنده، ولا شفاءَ له، وأن وحدتها غلبتها فانزلقتْ إلى تلك المهاوى. ما كانت «سلوى» تظنُّ يوماً أن ذلك سيكون هو مآل الحال، مع أنها كانت تعرف تفاصيل حياة «إلهام» كلها وتُدرك أن المسكينة تُعانى، منذ وفاة أمها قبل عشرين عاماً، أعراضَ الوحدة، وأنها تُعانى منذ بلغت من عمرها الأربعين أمراضَ العنوسة.