العيد فى اللغة مشتق من العود وهو الرجوع والمعاودة؛ لأنه يتكرر وكل أيام السنة تعود فى السنة التى تليها، فلا مانع من أن تكون جميع أيام السنة أعياداً إنسانية تعينه على مهمته الإعمارية؛ كما يخبرنا القرآن الكريم فى قوله سبحانه: «هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا» (هود: 61)، أى جعلكم عمارها وبُناتها.
ومع اعتماد الإنسان على تقويمى الشمس والقمر فى حساب السنين وتوافقه على حصر الشهور فى اثنى عشر شهراً كما يقول سبحانه: «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِى كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ» (التوبة: 36) إلا أن الدواعى العملية والحياتية أظهرت أنواعاً عديدة للسنين.
(1) فالذين اعتمدوا القمر أساساً للتقويم اختلفوا على ثلاثة أنواع، فى الجملة. (أ) منهم من أخذ القمر على طبيعته بحسب ميلاد أهلته دون حساب بداية للسنين كالعرب. وسموا الشهور بالمحرم وصفر وربيع أول وربيع ثان وجماد أول وجماد ثان ورجب وشعبان ورمضان وشوال وذى القعدة وذى الحجة. (ب) ومنهم من اعتمد التقويم العربى بأ سماء شهوره ولكنه أضاف بداية هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة لتكون أساساً لبدء التقويم، وهم المسلمون فى عهد عمر بن الخطاب، وبالغ بعضهم بتسميته التقويم الإسلامى. (ج) ومنهم من أضاف تعديلاً على دورة القمر الطبيعية بغرض استقرار الحساب فجعل الشهر القمرى 30 و29 يوماً بالتوالى، ثم فى كل 19 سنة تضاف سبعة أشهر، قوام الواحد منها 29 يوماً، ويطلق على هذا الشهر اسم فيادرا، كما يكتمل شهر أدار 30 يوماً بدل 29 يوماً، حتى يتم تصحيح بداية الشهور مع القمر. وهذا ما يعرف فى السنة العبرية والسنة الصينية مثلها. وتسمى الشهور العبرية: تَشْرى - مرحشوان - كسلوا - طبت - شباط - أدار - نيسان - أيار - سيوان - تموز - آب - أيلول.
(2) والذين اعتمدوا الشمس أساساً للتقويم اختلفوا على ثلاثة أنواع، فى الجملة: (أ) منهم من ابتدأ حساب السنة الشمسية من أول أكتوبر سنة 312 ق. م. وهو المعروف بالتقويم السريانى، ويستعمله أهل الشام وتسمى شهورهم بحسب هذا الترتيب: (تشرين الأول - تشرين الثانى - كانون الأول - كانون الثانى - شباط - آذار - نيسان - أيار - حزيران - تموز - آب - أيلول). (ب) ومنهم من ابتدأ حساب السنة الشمسية بالسنة التى ولد فيها المسيح عليه السلام من أول يناير، وهو المعروف بالتقويم الجريجورى ويستعمله أكثر الناس وتسمى شهورهم بحسب هذا الترتيب: (يناير - فبراير - مارس - أبريل - مايو - يونيو - يوليو - أغسطس - سبتمبر - أكتوبر- نوفمبر - ديسمبر). ولا فرق فى عدد أيام السنة والشهور بين التقويمين السريانى والجريجورى، وينحصر الخلاف فى أسماء الشهور وبداية السنة. (ج) ومنهم من ابتدأ حساب السنة الشمسية باليوم الذى تولى فيه الإمبراطور دقلديانوس حكم مصر فى 29 أغسطس 284 ميلادية (جوليانية)، وتسمى شهورهم بالأسماء القبطية أو المصرية القديمة وهى: (توت - بابة - هاتور - كيهك - طوبة - أمشير - برمهات - برمودة - بشنس - بؤونة - أبيب - مسرى).
وقد أثمر هذا التعدد للسنين بحساب القمر (السنة العربية والهجرية والعبرية والصينية)، وبحساب الشمس (السنة السريانية والميلادية والقبطية) عن مضاعفة الأيام فى السنة بما يخدم الحضارة الإنسانية؛ لأن أصحاب كل تقويم يتنافسون فى إعلاء القيم والمبادئ النبيلة فى صورة احتفالات أو أعياد على مدار أيام السنة التى اختاروها، ومن مجموع أعياد تلك السنين سيجد الإنسان نفسه أمام عدد من المناسبات والاحتفالات الكريمة التى تجدد نشاطه فى اليوم الواحد.
ومن الطبيعى أن يحتفل أصحاب التقويم السنوى بأعيادهم الدينية أو العرقية أو الوطنية أو العرفية. أما أن يشاركهم فيه غيرهم فإنه مرهون بقيمة هذا العيد الإنسانية التى تشد الإنسان وتجذبه بحوائجه النفسية والبدنية، بعيداً عن العصبية الدينية أو العرقية أو غيرهما، فعلى قدر قيمة العيد وتسويقه للآخرين إنسانياً تكون نتيجة مشاركتهم فيه. وإذا كنا نحن المسلمين نعتقد بحق أن الإسلام للإنسانية وليس لنا خاصة؛ لقوله تعالى: «قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًاً» (الأعراف: 158)، وقوله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ» (الأنبياء: 107)، فإنه يجب على المسلم أن يعد نفسه شريكاً مع بنى وطنه فى حمايته والارتقاء به، وفرداً فى المجتمع الإنسانى يتعامل مع كل الناس فى الأرض بأصول دينه دون انعزال أو تعالٍ، وعليه أن يتفاعل تأثيراً وتأثراً مع القيم والمقاصد الحضارية. وتطبيقاً لذلك على حكم الأعياد الدينية وغيرها فإن المسلمين مسئولون عن ثلاثة أمور:
الأمر الأول: تصدير الجانب الإنسانى فى أعياد المسلمين الدينية للبشرية. فإذا كنا نحن المسلمين فى أعيادنا نصلى ونكبر وننحر فى عيدى الفطر والأضحى عبادة لله. فهذا يخصنا بإلزامنا لأنفسنا وليس بإلزام مخلوق علينا. بقى الجانب الإنسانى من إدخال البهجة والسرور بالعمل الفنى الذى يدل عليه ما أخرجه البخارى ومسلم عن عائشة أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان فى أيام منى تدففان وتضربان، والنبى صلى الله عليه وسلم متغش بثوبه فانتهرها أبوبكر، فكشف النبى صلى الله عليه وسلم عن وجهه فقال: «دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد» وتلك الأيام أيام منى. إننا لو نجحنا فى تصدير الجانب الإنسانى فى أعيادنا للآخرين لقطعنا العزلة التى أغلقت قلوبهم عن رحمة الإسلام.
الأمر الثانى: ابتكار مناسبات تعلى المقاصد الشرعية الخمسة التى قال عنها الإمام الشاطبى وغيره إنها مقاصد كل دين سماوى، وهى: حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال. بحيث تكون هذه المناسبات إنسانية تجذب كل البشر وتجمعهم على قيم جامعة، على غرار التوظيف الصحيح لعيد الأم وعيد الحب وغيرهما مما يتأخر فيه المسلمون لثقافتهم الخاطئة التى تميل إلى العزلة عن غيرهم وإلى تفسير المقاصد الشرعية على أنفسهم من دون الناس مع ظهور الأدلة على تعميمها، كما نوضحه فيما يلى:
(1) حفظ الدين فى المطلق، فكما تحب أن تكون محفوظاً بإسلامك فإن غيرك يحب أن يكون محفوظاً بمسيحية أو يهودية. وقد أخرج الإمام أحمد عن أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب للناس ما يحب لنفسه»، وأخرج الأثرم وأورده ابن القيم فى «أحكام أهل الذمة» عن أنس بن مالك أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا عاد رجلاً -أى مريضاً- من غير دين الإسلام، قال: «كيف أنت يا يهودى يا نصرانى؟». وهذا دليل على أن النبى صلى الله عليه وسلم يخاطب غير المسلمين بالصفة التى يحبونها لأنفسهم، ولو كانت على غير دينه.
(2) حفظ النفس الإنسانية فى المطلق، فكما تحب أن تكون نفسك معصومة غير مهدرة، فغيرك كذلك. وقد قال تعالى: «مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا» (المائدة: 32).
(3) حفظ العقل فى المطلق، فكما تحب ألا يسفهك أحد فلا تسفه أنت أحداً، فمهما اختلفت العقول يجب عليها أن تتعايش إكراماً لهذا العقل، فقد أخرج ابن أبى الدنيا عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «لما خلق الله العقل قال له: قم فقام، ثم قال له: أدبر فأدبر. ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: اقعد فقعد. فقال الله عز وجل: «ما خلقت خلقاً خيراً منك ولا أكرم منك ولا أفضل منك ولا أحسن منك بك آخذ وبك أعطى وبك أعز وبك أعرف وإياك أعاتب، بك الثواب وعليك العقاب».
(4) حفظ العرض فى المطلق، فكما تحب لعرضك وذريتك الصون فغيرك كذلك. فقد أخرج أحمد والطبرانى عن أبى أمامة قال: إن فتى شاباً أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لى بالزنى. فأقبل القوم عليه فزجروه. فقال صلى الله عليه وسلم: «أترضاه لأمك»؟ قال: لا والله جعلنى الله فداءك. قال: «ولا الناس يحبونه لأمهاتهم». قال: «أتحبه لابنتك»؟ قال: لا والله يا رسول الله جعلنى الله فداءك. قال: «ولا الناس يحبونه لبناتهم». قال: «أتحبه لأختك. لعمتك. لخالتك» والرجل يحلف أنه لا يرضاه لهن. والرسول يقول: «ولا الناس يحبونه لأخواتهم ولا لعماتهم ولا لخالاتهم». ثم دعا للرجل أن يغفر الله ذنبه وأن يطهر قلبه وأن يحصن فرجه، فلم يكن الفتى بعد ذلك يلتفت إلى شىء.
(5) حفظ المال فى المطلق، فكما تحب لمالك ألا يعتدى عليه أحد. فكذلك غيرك يحب ألا يعتدى على ماله أحد، فقد أخرج مسلم عن أبى هريرة قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالى؟ قال: «فلا تعطه مالك» قال: أرأيت إن قاتلنى؟. قال: «قاتله». قال: أرأيت إن قتلنى؟ قال: «فأنت شهيد». قال: أرأيت إن قتلته؟. قال: «هو فى النار».
الأمر الثانى: مشاركة غير المسلمين فى الجانب الإنسانى لكل أعيادهم الدينية. فالجانب الدينى من الصلاة والطقوس التى لا تخضع للعقل وإنما ترجع إلى حق الإيمان يخص صاحبه. أما الجانب الإنسانى والاجتماعى من البهجة والسرور والتوسعة فى المعايش فهذا حق إنسانى لا تفرقة فيه بين البشر بحسب الدين أو العرق. وقد اشترك النبى صلى الله عليه وسلم فى الاحتفال بيوم عاشوراء بالوجه الذى لا يخالف عقيدته مع اليهود الذين يحتفلون به؛ لكونه اليوم الذى نجّى الله فيه بنى إسرائيل، وكان فى إمكانه صلى الله عليه وسلم أن ينهى عن الاحتفال بهذا اليوم مطلقاً؛ لعدم الاقتراب من مشاركة اليهود. فقد أخرج البخارى عن ابن عباس قال: قدم النبى صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال: «ما هذا»؟ قالوا: هذا يوم صالح هذا يوم نجّى الله بنى إسرائيل من عدوهم فصامه موسى. فقال: «فأنا أحق بموسى منكم». فصامه وأمر بصيامه. وفى رواية عند البخارى أيضاً: قالوا: هذا يوم عظيم وهو يوم نجّى الله فيه موسى وأغرق آل فرعون فصام موسى شكراً لله.
وإذا كان أوصياء الدين فى الماضى والحاضر يفرضون وصايتهم على المسلمين بتخويفهم من المشاركة فى احتفالات شم النسيم، بزعم أنه من المحرمات الدينية لما فيه من اتخاذ أعياد سوى عيدى الفطر والأضحى. إلا أن المصريين بفطرهم السوية وقلوبهم الصافية يدركون الفرق بين الاحتفال الاجتماعى والاحتفال الدينى، فلم يعبأوا بهذا التشكيك فى عقيدتهم وانتصروا على أوصياء الدين، فتوارثوا التوسعة على أولادهم وإدخال السرور على ذويهم وجيرانهم كلما وجدوا لذلك سبيلاً دون الإساءة لعقيدتهم أو الخضوع لجهالة الأوصياء، فجعلوا من شم النسيم مهرجاناً شعبياً يخرجون فيه إلى الحدائق والحقول، يحملون أنواعاً معينة من الأطعمة الشعبية مثل البيض والفسيخ والخس والملانة، ويعودون بمكسب كبير من تجديد النشاط وتصالح المتخاصمين.
ويرجع أصل الاحتفال بشم النسيم إلى الفراعنة سنة 2700 ق. م. وكان يرمز إلى بعث الحياة، حيث كانوا يعتقدون أن ذلك اليوم هو أول الزمان، أو بدء خلق العالم، وفيه يتساوى الليل والنهار. ثم جاء اليهود وأخذوا عن الفراعنة الاحتفال بيوم شم النسيم لأنه وافق يوم هروب بنى إسرائيل من الاستعباد على يد فرعون فى حوالى القرن الثالث عشر قبل الميلاد وسموه عيد الفصح وجعلوه رأساً للسنة العبرية. كما أخذ المسيحيون عن الفراعنة الاحتفال بيوم شم النسيم، فعندما دخلت المسيحية مصر جاء عيد القيامة موافقاً لاحتفال المصريين بعيدهم، فكان احتفال المسيحيين بعيد القيامة الذى يرون فيه قيام السيد المسيح بعد صلبه ويسمى أيضاً عيد الفصح يوم الأحد، ويليه مباشرة شم النسيم يوم الاثنين من شهر برمودة من كل عام، كما ورد ذلك فى الموسوعة العربية العالمية.
إذا لم تكن أيها الإنسان سبباً فى جمع الإنسانية على عيد لا يتعارض مع عقائدهم فعليك ألا تكون معوقاً لجمع الحضارة الإنسانية على كلمة سواء. وستتآلف الإنسانية يوما «ما» بحكم وحدة الأصل الإنسانى كاسحة أمامها نتوءات العصبية والعنصرية؛ لأن إرادة الشعوب هى الإرادة الجامعة التى تعبر عن الطبيعة المخلوقة.