كان الدكتور سليمان حزين واحداً من أهم العلماء الذين أنجبتهم مصر، وكان، رحمه الله، مثقفاً موسوعياً، وصاحب رؤية شاملة تخطت حدود تخصصه الدقيق فى علم الجغرافيا، وكان المعروف عنه أنه أصر، وهو لم يزل طالباً فى كلية الآداب، أن يلتحق بقسمين فى آن واحد هما قسم الجغرافيا والعلوم السياسية، وقسم الاجتماع والدراسات الفلسفية، وحصل عام 1929 على الليسانس فى القسمين معاً، ولكنه قبل تخرجه كان شديد الحرص على حضور معظم المحاضرات بقسم اللغة العربية فى الكلية ذاتها، حتى أصبح صديقاً مقرباً من عميد الكلية آنذاك الدكتور طه حسين، الذى أوفده فى بعثة علمية إلى جامعة ليفربول بإنجلترا، ثم إلى جامعة مانشستر، فحصل على الماجستير من الأولى عام 1933 وعلى الدكتوراه من الثانية عام 1935.
المهم فى هذا العالم المصرى المرموق، أنه كان مهموماً برسالة بدت للكثيرين آنذاك غير منطقية تماماً، فقد كان يحلم بأن ينقل مشاعل التنوير من جامعة القاهرة فى العاصمة إلى كل ربوع مصر، خصوصاً إلى قلب الصعيد والدلتا، فى وقت كانت فيه هذه «الربوع» مجرد إقطاعيات شاسعة تملكها فئة قليلة تعيش فى القاهرة ولا تغادرها إلا إلى باريس ولندن وتركيا لـ«الاصطياف» والعلاج، وكانت قرى مصر ونجوعها وكفورها ترسف فى أغلال الفقر والمرض والجهل والاستعباد المهين للكرامة الإنسانية، وفى نهاية الأربعينات كان الدكتور «حزين» مشغولاً فى إنشاء العديد من مراكز الدراسات والهيئات الثقافية العربية والدولية «مثل اليونيسكو»، ورغم ذلك لم يفارقه حلمه بأن ينقل مشاعل التنوير إلى الأقاليم، حتى واتته فرصة إنشاء قسم الجغرافيا بآداب الإسكندرية، وحاول فيه أن يضع علم الجغرافيا البشرية باعتبارها أهم ثروات الدنيا فوق كل فروع الجغرافيا الأخرى فى وقت كان فيه البشر مجرد عبيد فى إقطاعيات الملك والوزراء وأعضاء مجلس الأمة.
بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952 سارع الدكتور حزين بوضع رؤيته وحلمه تحت تصرف الثورة رغم أنه ظل على مسافة محسوبة من رموزها، ولم يطرق باب مسئول أو ضابط كبير بحثاً عن دور أو منصب، وعندما فكرت ثورة يوليو فى إنشاء أول جامعة بصعيد مصر لم تجد غير سليمان حزين، فذهب إلى أسيوط وأنشأ جامعتها عام 1955 وبدأ الدراسة بها عام 1956، وكان من أهم ما فعله فى هذه الجامعة أنه أصر على أن تكون جامعة بلا أسوار تعزلها عن الوسط الاجتماعى لسكان المدينة الذين كانوا آنذاك خليطاً من الموظفين والفلاحين والعمال والتجار، وجعل شوارع الجامعة مجرد امتداد لشوارع المدينة التى تؤدى إلى التجمعات السكنية والحقول والمصانع ودور العبادة من مساجد وكنائس، ولم يأبه على الإطلاق بالملاحظات المنمقة التى أبداها بعض المثقفين والخبراء بأهمية أن تكون الجامعة محصنة بأسوار احتراماً لهيبة العلم وقدسيته، ومن المتواتر عن الدكتور سليمان حزين أنه أطلق آنذاك مقولته الشهيرة: «لو كان الأمر بيدى لما وليت أحداً أية مسئولية سياسية أو علمية أو إدارية فى مصر إلا إذا كان من أصول ريفية، أو على الأقل عاش بين الناس فى الريف واطلع على أدق تفاصيل حياتهم وظروفهم وعملهم».
صحيح أن الرئيس الراحل أنور السادات أوعز -بعد ذلك بسنوات- لمحافظ أسيوط الشهير محمد عثمان، بأن يستخدم الجماعات التكفيرية ويمولها للتصدى للمد اليسارى والناصرى لطلبة جامعة أسيوط، حتى تحولت هذه المنارة العلمية المفتوحة على بيوت وشوارع وحقول أسيوط إلى معقل للإرهاب خرجت منه بعد ذلك جحافل جاهلة قتلت السادات نفسه وهو يحتفل بنصر أكتوبر عام 1981، واضطر الأمن إلى إحاطة كليات جامعة أسيوط بأسوار وبوابات رهيبة دفنت العلم خلفها. ولكن -رغم ذلك- تظل رؤية سليمان حزين للخروج بالعلم والمعرفة والإدارة من العاصمة إلى ربوع مصر كلها هى الفريضة الغائبة فى كل ما نفعل الآن، ودون هذا الخروج ستظل العاصمة المتخمة بالبشر والمراكز البحثية وضجيج النخبة، مجرد رأس ضخم لجسد هزيل، كما وصفها الرائع جمال حمدان، أحد تلاميذ الدكتور سليمان حزين، رحمهما الله، ورحمنا جميعاً من بؤس وغباء التركيز فى كل مشروعاتنا على العاصمة.