هذا مقال افتراضى يناقش احتمالاً مستقبلياً لا يمكن استبعاده، لا منطقياً ولا سياسياً، وإن كان الكاتب لا يتمناه ولا يروّج له. ويتضمن المقال فى طيّاته تقييماً لولاية المستشار عدلى منصور خلال رئاسته للجمهورية فى مصر، التى أوشكت عملياً على الانتهاء، بما يبرر تقييمها من منظور إعلاء المصلحة العامة والحرص على نيل غايات الثورة الشعبية، فى الحرية والعدل والكرامة الإنسانية للجميع، التى يتعين أن تكون مرجعيتنا جميعاً فى مصر الآن.
وللتأكيد، فقد كنت ممن استبشروا علناً بتولى قاضٍ جليل، رأس قبلاً أعلى محاكم البلاد، رئاسة الدولة فى الفترة الانتقالية الثانية شديدة الحرج بعد نجاح الموجة الكبيرة الثانية من الثورة الشعبية العظيمة فى إسقاط حكم اليمين المتأسلم الفاشى بمدد كريم من القوات المسلحة لشعب مصر.
إلا أنه منذ مطلع العقد الحالى، الثانى من القرن الحادى والعشرين، لم ينجُ رئيس دولة أياً كان مسوّغ توليه المنصب، من المحاكمة، بتهمة أو أخرى، بشكل أو بآخر. ومن لم يُحاكم حتى الآن فهو فى تقديرى ينتظر ليس إلا. وهناك أسباب موضوعية لهذه الواقعة التاريخية والحكم الذى قدمت. فكل من رأس الدولة فى هذه الحقبة ارتكب أخطاءً جسيمة من منظور الحكم الديمقراطى السليم يقارب بعضها خطايا قاتلة. والسبب المنطقى بسيط هو أن بنية الحكم فى مصر ما زالت استبدادية وأن الحكم الاستبدادى يغرى بالتسلط -إن لم يكن بالفساد- عند الوصول إلى موقع السلطة الأعظم، لا سيما لو لم يكن للتنمية آليات رقابة ومساءلة مؤسسية، قوية وفعالة. هذا هو الحال فى مصر حتى الآن.
من المعلوم أنه ليس فى السياسة من مستحيل ولا ينبغى المصادرة على المستقبل. ومن ثم، فليس فى حكم المستحيل أن يعود تحالف من تيار اليمين المتأسلم إلى حكم مصر -أو على الأقل ليقوم بدور محورى فى السياسة بمصر- ولو بعد حين. وقتها سيكون عدلى منصور وباقى رجالات المرحلة الانتقالية الثانية محل مساءلة، وربما محاكمة عما يوجهه إليهم اليمين المتأسلم من اتهامات لم تفلح الحكومة المؤقتة حتى الآن فى إبرائهم منها، على الرغم من استمرار المحاولة وقوتها.
ومن هنا، لا أستبعد شخصياً أن يعيد الرئيس القادم -أياً كان- تأهيل جماعة الإخوان الضالين إلى الحلبة السياسية فى مصر. ولا يعنى ذلك على الإطلاق استعادة القادة الحاليين المقدمين لمحاكمات إلى صدر المشهد السياسى. هؤلاء قد لا يكونون موجودين أصلاً إن جرى إعدام بعضهم. ولكن المستقر فى السياسة أن إعدام بعض القادة لا يقضى على الفكرة الاجتماعية أو السياسية أو التنظيم المعبر عنها. وفى حالتنا، فبعد مقتل حسن البنا، وإعدام سيد قطب، بعشرات السنين ارتقى سدة حكم مصر بعض من قادة الجماعة.
ومن يصل إلى سدة الحكم فى الانتخابات الرئاسية المقبلة قد يؤسس لاستقرار حكمه بخطب ود تيار اليمين المتأسلم، ولو بتنازلات سياسية. كما يمكن أن يكون التيار السلفى ممثلاً فى حزب النور، هو مدخل عودة اليمين المتأسلم. ولن يدهشنى أن يكون الرئيس المقبل من القوات المسلحة -إن قدر له الفوز فى الانتخابات الرئاسية- هو من يفتح الباب لفصيل السلفيين لاقتناص الحكم، أو الوجود المؤثر للتيار بكامله ولو لفترة انتقالية. فقد دلّلت الحكومة المؤقتة، بعلم -إن لم يكن بطلب- من وزير الدفاع السابق، هذا الفصيل بما يتجاوز دواعى الحفاظ الشكلى على متطلبات المصالحة المجتمعية، باعتبارها أحد مكونات خريطة المستقبل التى أعلنها وزير الدفاع السابق فى 3 يوليو، بينما اتبعت الحكومة المؤقتة -فى تقديرى بطلب منه- استراتيجية سحق جماعة الإخوان الضالين بشتى الوسائل. كما أنه على الرغم من ترفّعه عن لقاء الجماهير، مفضلاً أسلوب الاستدعاء لحضرته لمن ينتقى، فقد التقى المرشح الرئاسى قادة التيار والحزب فى طى الكتمان، مما يشير إلى تفاهم أو صفقة سياسية ما.
ولهذا فقد يكون حزب النور مدخل التيار بأكمله للعودة لتصدر الساحة السياسية ولو بعد مرحلة ما. فلا بد أن الفصيل السلفى يشعر بقدر من الذنب لتخليه -حتى لا أقول خيانته فى منظورى- عن جماعة الإخوان الضالين، حلفائه السابقين، فى ترتيبات منتصف 2013.
صحيح أن عودة اليمين المتأسلم إلى سدة الحكم أو للتأثير فيها بقوة من خلف ستار ما، ستوجه العداء والمرارة والرغبة الأشد فى الانتقام لوزير الدفاع السابق. فهم يعلمون أنه كان المحرك الرئيسى لإسقاط حكمهم. وقد اعتبروه علناً وفى جميع نشاطاتهم العدو رقم 1. ولكن هذا لا ينفى أن عدلى منصور كان على رأس الدولة منذ إسقاطهم فى 3 يوليو، وأن كثيراً من القرارات التى أثرت عليهم اتخذت باسمه وتحت رئاسته.
وهذا هو فى الحقيقة وجه التشابه المأساوى بين عدلى منصور ومحمد مرسى. كلا الرجلين اتخذ قرارات تضعه موضع المساءلة وإن كان يتحرك بمشورة أو تحت إمرة آخرين.
وليست الخصومة مع تيار اليمين المتأسلم، باستثناء السلفيين وحزب النور -اللذين دللهما رئيس الدولة المؤقت بما يتعدى الصالح العام، الذى يمكن لأن يعد مبرراً لمساءلته فى نظام سياسى قادم- هى المبرر الموضوعى الوحيد لمحاكمة عدلى منصور. فهناك مآخذ عامة على قرارات الرئيس المؤقت تؤهله للمساءلة حال قيام حكم ديمقراطى سليم فى مصر، كما نرجو أن تنتهى إليه تعثرات ما بعد الثورة الشعبية العظيمة فى يوم ليس ببعيد.
ونكمل الأسبوع المقبل..