الشعب على وشك أن يواجه انتخابات رئاسية جديدة لن يخرج منها -فى ظنى- فائزاً. وكأنما الانتخابات الرئاسية منحوسة فى هذا البلد بأن يواجه الشعب خياراً بين بدائل أحلاها مر. إلا أن الفائز، فى شخص الرئيس القادم، يبدو محسوماً. واضح أنه أنصت إلى نصح كهنة الاستبداد، ولم يقدم برنامجاً محدداً للشعب لكى ينتخبه على أساسه، ويمكن أن يحاسبه فيما بعد على مدى النجاح فى تنفيذه. فكأنما يعلن، لقد أعذر من أنذر. انتخبتمونى دون أن أقدم وعوداً محددة، بل إننى أنذرتكم بأننى سأطلب منكم الكثير من المشقة والمعاناة، ومع ذلك انتخبتمونى، فلا حق لكم إذن فى مساءلتى.
ومع ذلك، فقد توافر شتات متناثر عن ملامح برنامج طموح، ولكنه مغرق فى النمط التقليدى السابق تبيان فشله. فى النهاية، ليس مشروع نهضة وإنما مجموعة مشروعات إنشائية وضعها مهندسون تنفيذيون من القوات المسلحة على ما يبدو. هى صحيح طموحة ولكنها «فكر» مهندسين ورجال أعمال، تحديداً هم مقاولون تقليديون لا يهمهم إلا توافر التمويل لتشغيل المعدات والبشر فى التشييد، فى استمرار للذهنية الاقتصادية التى بدأها النظام الذى قامت الثورة الشعبية لإسقاطه، وما زالت تحكم مصر. فليس من أدنى اهتمام بالبحث العلمى والتطوير التقنى مثلاً، وهو مدخل مصر الأوسع لنهضة حقيقية.
«نتكلم فى مبالغ ضخمة مش أقل من تريليون جنيه». كان هذا تقدير المرشح الرئاسى عبدالفتاح السيسى، لاحتياجات مصر من التمويل الاستثمارى، فى فترة ولايته، حتى يستطيع تنفيذ الكثير من المشاريع، التى ستُحسن فى ظنه أوضاع المصريين. وليس بالمبلغ الضخم فى ضوء انهيار قيمة الجنيه المصرى.
وعلى الرغم من ذلك الموقف المتعالى، فقد توافرت من سيل الترويجات الإعلامية علامات على أى رئيس سيكون إن قُدّر له أن يفوز فى الانتخابات المقبلة. لعل السمة الغالبة على سيل الترويج المحسوب هى الترفُّع عن السياسة والتعالى على جماهير الناس، فهو يرفض مناظرة منافسه علناً، على الرغم من إلحاح المنافس، وأعلنت حملته أن السبب هو تقديرهم أن المناظرة ستفقده ملايين الأصوات. وأى تصويت بالثقة فى بطلهم الخارق يكون به مثل هذا الإعلان؟
وبدلاً من عقد المؤتمرات مع الجماهير كحال المرشحين فى جميع أنحاء الدنيا، فهو يستدعى من يروق له موقفهم لحضرته المتسامية فى قاعات فخيمة نخمّن أنها مملوكة للمؤسسة العسكرية. وفى تذكير باهتمامات رؤوس نظام سعت الثورة الشعبية إلى إسقاطه، عقد لقاءً دعا إليه عدداً كبيراً من العاملين فى حقل الرياضة، وليس الرياضيين كما أُعلن، كانت ذروته عقد صلح بين المدعوين مرتضى منصور وشوبير.
وإن كان الداعى إلى هذه النشاطات، المحكومة أمنياً هو الحرص على سلامته الشخصية فهو دلالة على فشل المرشح فى مهمته الأهم باعتباره المسئول الأول عن الأمن فى البلد منذ يوليو الماضى. والأهم هو ما يعنيه هذا الهاجس التأمينى المسيطر على المرشح، إن قُدر له الفوز. فسيعنى على الأرجح أن يكرر نمط الرئيس المخلوع فى تفضيل الابتعاد عند الناس والعزلة فى المنتجعات المؤمّنة من القوات المسلحة وربما عودة المواكب المحصّنة إلى رأس الدولة وإن اقتضى الأمر التعسير على المواطنين.
والأخطر أن يشى بأن أسلوب ممارسته لرئاسة الدولة لن يختلف عن منطق القيادة العسكرية، وشتان بين الموقفين، فهناك تناقض جوهرى فى الترفّع عن السياسة ممن يتقدم إلى منصب هو فى الأساس والجوهر، سياسى.
ومصداقاً لهذا، فقد أعلنت حملته أن وزير الدفاع السابق لن يشكل أو يدعم حزباً سياسياً طوال مدة رئاسته لمصر. وعلى الرغم من ضرورة احترام النص الدستورى بألا يشغل رئيس الجمهورية أى منصب حزبى طوال مدة الرئاسة. فإن تدعيم الأحزاب الديمقراطية مطلب أساسى لتأسيس الحكم الديمقراطى السليم. وقد كنت أتمنى شخصياً أن يترشح وزير الدفاع السابق بعد تأسيسه حزباً يمارس فيه السياسة.
كما تمخض اللقاء الإعلامى المشار إليه سابقاً عن إشارات لا تدعو إلى كثير من الاطمئنان عن سلوك المرشح إن قُدّر له أن يرأس مصر. وسأطرحها -فى خمسة مجالات مختلفة- على صورة مقتطف من كلامه، وتفسير أو تعقيب قصير منى. أبدأ بتذمره من محاوريه قائلاً: «انتو جايين تسألوا ولا تتكلموا؟» مما يعبر -فى نظرى- عن ضيق بالاستماع إلى الآخر، إن لم يحلق داخل السرب كما يراد له من القائد.
«مش هيبقى فيه (قيادات دينية) وأنا المسئول عن الدين والمبادئ والقيم»، لقد اعتبرت المقولة سيئة الصيت المنسوبة إلى ملك فرنسا لويس السادس عشر، الذى حكم أطول من نصف القرن وأرهق الخزينة العامة المتداعية بحروب متتالية: «الدولة ليست إلا أنا»، قمة الاستبداد وتسلط الفرد. ولكن ها هو مرشحنا يتفوق بمقولة «المجتمع ليس إلا أنا». والكاتب ممن أسهبوا فى ذم مُدعى المشيخة من المتاجرين بالدين، عن جهل وجهالة، من تيار اليمين المتأسلم لأغراض سياسية دنيئة. ولكن هذا أمر وإهدار لجميع مؤسسات المجتمع الكفيلة بالحفاظ على الدين والقيم واختزالها فى شخص الحاكم أمر آخر كلياً يثير الرعب ويوحى بإدارة البلد كمعسكر جيش يأتمر بأمر الفرد القائد.
«قانون التظاهر باقى، اللى عاوز مظاهرات يبقى عاوز يخرب البلد»، قلة اكتراث بآليات الديمقراطية ومخالفة صريحة للدستور، الذى يضمن حق التظاهر السلمى بلا قيود.
«الدستور بيفرض علىّ أن أنهى وجود حزب النور»، على الرغم من مطالبتى المنشورة بإلغاء جميع الأحزاب المسماة بالإسلامية باعتبارها أحزاباً دينية يحظرها الدستور، إلا أن الموقف السياسى يثير الدهشة، حيث تحالفت الحكومة المؤقتة التى تشكلت فى يوليو 2013، وكان للمرشح الدور الرئيسى فى تكوينها، مع حزب النور ودللـه كحليف سياسى إلى حد تمكينه من حق الرفض لمرشحى رئاسة الوزارة وتمييع قضية الدولة المدنية فى الدستور، وقد كان. التحالفات إذن وقتية ونفعية فى الأساس.
«إن تعرضت دولة عربية لعدوان، يبقى مسافة السكة». وعلى الرغم من إيمانى الراسخ بوحدة الأمن القومى العربى. فقد خالجنى تخوّف من أن يعبر التصريح عن استعداد للمغامرة عسكرياً من دون إعمال الآليات السياسية لأمن قومى عربى يقوم على أسس راسخة حتى يدوم.