أنتمى، وغيرى كثير، إلى ذلك الزمن العتيق، حين كان الجمهور يجلس فى قاعة الحفل هادئاً صامتاً يستمع إلى أغنية الست أم كلثوم، أو السيد عبدالحليم حافظ، وفشلت تماماً فى الانسجام مع زمننا الحالى، حيث يقف الجمهور فى حفل تامر حسنى يتراقص ويتمايل إلى درجة تجعل «البنطلون أبووسط ساقط» على وشك أن يهبط، كاشفاً عن «البوكسر» المنقوش.
لكننى رغم ذلك الخصام مع عالمى، لم أضبط نفسى متلبساً يوماً بالسخرية من ذوق أهلى، الذى وصل بهم إلى حد سماع «أوكا وأورتيجا»، والرقص على أنغام «بشرة خير» أمام اللجان الانتخابية، ولا السخرية منهم، وهم يبصقون على كل الخيارات الثورية والشعارات التى يرفعها المثقفون والنخبة.
طوال نحو 3 سنوات ونصف السنة، نجح الثوريون فى أن يكونوا الشرارة التى تتحول فيما بعد إلى حريق يلتهم نظام الحكم، لكنهم فى المرتين «25 يناير و30 يونيو» فشلوا فى ضبط مزاج الشعب على موجتهم، بل كانوا فى كل مرة ينتقلون من أسطوانة «الشعب المصرى العظيم» إلى أسطوانة «الشعب ابن كذا وكذا». وفى المرة الوحيدة التى نجحت النخبة والثوريون فى إقناع الشعب باختيار محدد، انتهى الأمر إلى نتيجة كارثية، وأقصد هنا ما جرى عند انتخاب الإرهابى محمد مرسى.
وفى كل أمة، توجد نخبة تمثل ضمير الشعب وخلاصة ثقافته، وتنجح الشعوب بحسب درجة نجاح النخبة فى فهم ثقافة الشعب. وإذا اعتبرنا هذه قاعدة، ستكون النتيجة المنطقية أننا لن ننجح أبداً ما دام شعبنا فى دولة، ومثقفونا فى دولة أخرى مقرها مقاهى وسط القاهرة. ولن ننجح أبداً إذا استمر هذا الخصام: نخبة تهاجم عبدالفتاح السيسى، فينتخبه نحو 23 مليون مواطن، ونخبة تستمع إلى فرقة كايروكى، وشعب يستمع إلى حسين الجسمى، ونخبة تشاهد أفلام السينما المستقلة وشعب يستمتع برقص شاهيناز وأفلام محمد رمضان والسبكى، ونخبة تهاجم قمع جهاز الشرطة وشعب يصفق ويحتفل بكل ضربة توجهها مؤسسات الدولة للحريات.
سيظل المثقفون عاجزين عن الفهم، ما داموا يقرأون الآية معكوسة: لدينا مرشح حصد 23 مليون صوت من جملة 25 مليوناً شاركوا فى التصويت. هذه النتيجة يقرأها المثقفون على أنها مقاطعة وتأديب لعبدالفتاح السيسى، بينما يقرأها الشعب على النحو التالى: 23 مليوناً نزلوا للتصويت لشخص واحد مقابل أقلية لم تتحرك، وأقلية منحت صوتها لمرشح منافس.
فى تقديرى، لا تحتاج مصر إلى مصالحة مع الإرهابيين، بقدر ما تحتاج مصالحة بين الشعب ونخبته التى يصر أفرادها على تحويل أنفسهم إلى آلهة لها السمع والطاعة من جانب الشعب. تحتاج مصر أن يهبط الآلهة المثقفون إلى أرض مصر ربما يفهمون شعبهم.