الميلودراما صنف من فن الدراما يبالغ عمداً فى توالى الأحداث ورسم شخوص العمل لكى يخاطب العواطف الأولية للبشر. وفى مصر تعد أفلام المخرج الراحل «حسن الإمام» نموذجاً على هذا الصنف الفنى.
لقد انفض السامر وأعلن عن فوز مرشح المؤسسة العسكرية للرئاسة، والدليل على هذا الزعم هو أن كثرة المتحدثين الذاكرين له ما زالوا يسبقون اسمه برتبته العسكرية حتى بعد أن أصبح فى حكم المؤكد توليه رئاسة البلد كمواطن مدنى، وقد يكون فى عقلهم الباطن أن المشير أعلى رتبة من الرئيس. أُعلن الفوز، فور انتهاء فترة التصويت وقبل إعلان النتائج رسمياً، وكأن التاريخ يعيد نفسه فى مشهد إعلان فوز محمد مرسى بالطريقة ذاتها مع بدء التصويت، وتبين قلة الإقبال عليه مقارنة بهوس التغنى والتراقص المصنوع، والمجافى للاحتشام وللتقاليد المصرية فى نظر كثيرين، أصاب الهلع مدعى الزعامة من الإعلاميين والمتسلقين على أكتاف المرشح المؤكد فوزه، الزاعقين بحمده، والحكومة التى تدعى الحياد ولجنة الانتخابات الرئاسية المكونة من قضاة كبار، من قلة الإقبال على التصويت فى اليوم الأول. والمرشح الفائز مؤكداً كان يبدو مصمماً، كما تسرب عن حملته، على الفوز بعدد أصوات أكبر مما فاز به المعزول محمد مرسى على الأقل.
فهرولت الحكومة فى نهايات اليوم الأول لإعلان اليوم الثانى عطلة رسمية، وعندما لم تفلح تلك الرشوة فى حفز المشاركة بالسرعة المأمولة تحولت الحكومة إلى الإرهاب والترويع فى اليوم التالى عبر التهديد بالعقوبة القصوى المقررة فى القانون، 500 جنيه، كعقاب على عدم التصويت. والحق أن القانون، والحكومة التى تلقفته لتطبيقه، يهدران رخصة الامتناع عن التصويت التى تضمنها التنظيمات الديمقراطية حقاً، والتى تتضمن أن المقاطعة حق لا يجوز أن يعاقب من استخدمه.
كما أن الحكومة تزيّدت وغالت، فالمعروف أن القانون يقرر غرامة تتراوح بين جنيه واحد و500 جنيه، وليس من حق الحكومة تقرير قيمة العقوبة التى يجب أن تقرر بحكم قضائى. وعندما شرح أحد ما للسيد رئيس الوزراء خطأ تصرفه المتسرع أعلن فى إعلانات متلاحقة عبر قنوات الإعلام جميعاً أن حكومته الموقرة ستحيل عشرات ملايين المواطنين الذين لم يشاركوا فى الاقتراع للنيابة، ثم صعدت الحكومة من حملة الترويع بالإعلان عن أن الحكومة السنية، ومن قبل أن ترى النيابة رأياً قانونياً فى المواطنين العاقّين هؤلاء، ستخصم 500 جنيه من مرتب كل موظف لم يقترع. هذا ناهيك عن حملات الإهانة والتقريع التى وجهها بعض المتحمسين للمرشح مؤكد الفوز إلى الممتنعين وللشعب كله، فليس أهم فى نظر هؤلاء من حصول الرئيس المقبل على كم الأصوات المطلوب، ولو بإهانة الشعب وسوقه ليدلى بصوته.
ولما لم يفلح كل هذا فى استجلاب الملايين المطلوبة لفوز المرشح المرجح، ارتكبت لجنة الانتخابات الرئاسية الخطأ الأكبر بمد التصويت ليوم ثالث فى مخالفة صريحة لمادتين من مواد قانون الانتخابات الرئاسية. الأمر الذى قد يفتح الباب للطعن فى شرعية الانتخابات برمتها، وقد حدث وهناك دعوى منظورة أمام القضاء. حيث تنص المادة «26» من قانون الانتخابات الرئاسية لجمهورية مصر العربية لعام 2014 على: «يجرى الاقتراع فى يوم واحد، تحت الإشراف الكامل للجنة الانتخابات الرئاسية، ويجوز فى حالة الضرورة أن يجرى الاقتراع على يومين متتاليين».
غاب عمن هلعوا من قلة الإقبال وأساءوا إلى الشعب وإلى العملية الديمقراطية كليهما، أن توقع الفوز المؤكد لمن فاز فعلاً قد ساهم فى زيادة الإحجام عن التصويت، خصوصاً فى أيام الحر القائظ الذى اعتبره البعض من قبيل العكوسات السماوية. والأهم من ذلك غياب فهم أن الأمة فعلاً منقسمة بفعل ما تتالى من أحداث منذ 3 يوليو 2013، وأن التوجس مما قد يجلبه المستقبل شبه المحتوم يتجاوز الإخوان الضالين وحلفاءهم ومناصريهم إلى صفوف من ينتمون بحق إلى الثورة الشعبية العظيمة.
ولذلك فليس غريباً أن أسفرت العملية الانتخابية فى هذا السياق، عن نسبة استثنائية وغير مسبوقة من الأصوات الباطلة، أو لعل المُبطلة وصف أدق، حيث كان التعمد بادياً فى كثير من الأصوات الباطلة، والتى بلغت حوالى 4% من جملة المصوتين. منطقى أن بعض معارضى المرشح مؤكد الفوز أبطلوا أصواتهم احتجاجاً، ولكن لا يمكن استبعاد أن البعض أبطلوا أصواتهم استياء واحتجاجاً على الحكومة لمحاولة إجبار الناس على التصويت بالتهديد والوعيد نكاية فى الحكومة وفى الفائز المقبل الذى يعتبرونه محرك الحكومة الفعلى. ولا تخلو الصورة الأكبر لخريطة التصويت هى الأخرى من مسحة درامية.
فمن بين أكثر من 50 مليون مصرى لهم حق الاقتراع، اختار قرابة 29 مليوناً المقاطعة أو إبطال الـصوت بنسبة 53% من الإجمالى. وبهذا يزيد عدد المقاطعين والمبطلين لأصواتهم عمن صوتوا للمرشح الفائز بأكثر من ثلاثة ملايين. وهذا أمر منطقى، فبعض الإجماع الشعبى الذى تبلور فى نهاية يونيو 2013 ضد حكم اليمين المتأسلم قد تبخر بسبب أخطاء حكم المرحلة الانتقالية الثانية التى لا يمكن تبرئة المرشح الفائز من القيام بالدور المحورى فيها. حتى بدا وكأن شعبية بطل الميلودراما الكاسحة كانت مصنوعة بالإعلان والإعلام المُزيفين للحقيقة والوعى كليهما. والمؤكد أن قسماً كبيراً من الشعب لم يجد نفسه، ولا مرشحاً مرضياً تماماً له، فى ميلودراما الانتخابات الرئاسية تلك. إلا أنه من النتائج الحميدة للميلودراما أن خطاب حمدين صباحى بقبول خسارة الانتخابات أثبت أن المرشح الرئاسى المخضرم سياسى حكيم ورجل دولة وطنى لا يشق له غبار.
فى النهاية، هناك الدرس الأهم الذى يجب أن يستخلصه وأن يتمعن فى عواقبه الرئيس الفائز. ومؤداه أنه -على الرغم من فوزه بنسبة هائلة من الأصوات الصحيحة لمن اقترعوا- لا يحمل تفويضاً شعبياً جامعاً أو كاسحاً وأن تفويضاً عاماً مضى قد تهرأ. ومن ثم، فعليه أن يتحلى بفضيلة التواضع، وأن يعمل بدأب كرئيس للبلاد ومع فريقه الذى يتعين أن يكون مؤهلاً للمهمة بجدارة، على استعادة متانة اللحمة الوطنية، وأن يتخذ القرارات والإجراءات الكفيلة بالتحرك الجاد لنيل غايات الثورة الشعبية العظيمة فى الحرية والعدل والكرامة الإنسانية للجميع على أرض مصر، وعلى القصاص الناجز والعادل لمن أوقعوا من شهداء أحداث الثورة ومصابيها. تلك الغايات التى ظهرت بوادر انحراف جسيم عنها منذ منتصف العام الماضى.