(1) الحرية
عبر التاريخ، ظلت الحرية تحمل لواء إرادة البشر غير القابلة للكسر، رافضة لكل ما هو غير قادر على التعايش مع هذه الحرية. وتظل الذات البشرية الواعية بإنسانيتها هى القادرة على إحداث فعل الحرية. ويتحرك فعل الحرية فى صورة ديناميكية تجعل من الإرادة الحرة إرادة قادرة على التمرد ومن ثم إحداث فعل المقاومة للتسلط. فى اليونان القديمة مثلاً، انتفت الحقوق؛ فكان العبد يُعتبَر بلا حقوق. ولكن هذه النزعة الإقصائية لم تكن لتقضى على وعى الفرد بذاته وبفرديته، بإرادته التى لا تحكمها الإرادة العليا فى المجتمع، وإنما تحكمها ذاتها، فكانت ثورة العبيد التى قادها «سبارتاكوس»؛ فالإرادة تكمن داخل الروح العصية على الإخضاع من خارجها.
ويجعل «ألبير كامو» من التمرد سلوكاً حتمياً وضرورياً فى حالة توافر الاطلاع والشعور بالحقوق؛ فالحق هو المطلب الرئيسى، حتى إنه يكافئ بين المتمرد والمواطن، وبين المواطن والمقاوم للاستبداد. ولم يرَ «كانط» فى الانتفاض على الطاغية وخلعه عن عرشه افتراء عليه.
وبينما يؤسس الفكر الليبرالى لمفاهيم الحرية والديمقراطية، لا يولى عناية كبيرة لعملية التحرر من القهر. وليس من غرابة؛ حيث نشأ الفكر الليبرالى فى ديمقراطيات مستقرة أو فى طور التشكل إيجابياً. ولكن لا يخلو الأمر من إشارات ذات دلالة فى الكتابات الأحدث نسبياً عن ديناميات القهر وتدويمه، لها رجع وصدى فى الأوضاع الراهنة فى البلدان العربية.
فينتقد «إيزايا برلين» أنظمة الحكم الأبوية؛ لأنها مهما كانت كريمة أو عقلانية، تميل إلى معاملة غالبية البشر كقُصَّر، أو قليلى المسئولية، ناقصى النضج، حتى لا يستحقوا الحرية فى المستقبل القريب، أى -حقيقةً- لا يستحقونها على الإطلاق. وهذه سياسة لا تقوم على أساس علمى أو منطقى، بل على تصور ممعن فى الخطأ عن الحاجة البشرية الأعلى، أى الحرية.
(2) العنف
يُناقَش العنف فى الكتابات النظرية من منظورين: الكفاح ضد المستعمر الباطش، ومقاومة عصبة حكم استبدادية.
نقطة البدء عند «فرانتز فانون»، مثلاً، هى أن القضاء على الاستعمار هو ظاهرة عنيفة بامتياز ولا يمكن أن تجرى خلسة؛ فالنضال ضد الاستعمار ينطوى على تغيير أساسى فى الأفراد المنضوين تحته. ولكن «فانون» ينتهى أيضاً إلى أن تقدم الإنسانية يتطلب الإبداع والابتكار لنقل البشرية إلى مصاف أوفر إنسانية فيما بعد الحضارة الغربية المهيمنة. وليس التحدى أقل من ابتداع مفاهيم جديدة، بل وإنسان جديد. وهكذا، رغم أن العنف، عند «فانون»، مكوّن لازم للنضال من أجل عالم إنسانى، فليس العنف هو الذى يقيم مجتمعاً مخلّصاً من الاستغلال والاستبداد؛ فالعنف ذاته ينتقص من الإنسانية ويعطل عزيمة المقهورين. الأهم هو الفعل النضالى الذى يقوم به المقهورون لإضفاء الإنسانية على أوضاع يهدرها الاستبداد.
ولكن «فانون» يلاحظ أن إعلاء اللاعنف لم ينتشر فى الغرب خلال القرون التى ارتكب فيها الغرب أبلغ أشكال العنف ضراوة ضد البشر فى المستعمرات، ولكن فقط عندما بدأ المقهورون تنظيم مقاومة فعالة، أحياناً عنيفة، للاستغلال الإمبريالى، مما يضع دعوة اللاعنف هذه فى صف الإبقاء على الأوضاع الراهنة الجائرة.
انظر فى التماثل القوى بين حجج الاستعمار الخارجى والاستبداد الداخلى، فى مواجهة التمرد على سطوتهم!
ويؤكد «هربرت ماركيوز» ضرورة العنف، حتى المسلح، لنضال التحرر؛ نظراً لاستحالة تحالف أى عصبة مهيمنة مع المستضعفين كقيادة لنضالهم التحررى. بل الأرجح أن قوى الهيمنة ستلجأ لأساليب، وأسلحة متزايدة الفعالية للقهر، كما ستقوِّى بنى الاستبداد المحلية من خلال المعونة المتعاظمة من المركز الإمبريالى، وهى نبوءات تحققت فى المنطقة العربية. وتتيح إسهامات الفيلسوف اللاتينى «إجناسيو إلاكوريا» -الذى اغتالته، مع ستة من القسس الجيزويت داخل حرم جامعة أمريكا الوسطى فى نوفمبر 1989، فرقة خاصة من جيش السلفادور تدربت فى الولايات المتحدة واشتهرت بانتهاكاتها الصارخة لحقوق الإنسان- استبصارات مهمة فى طبيعة العنف وجدل القهر - التحرر. ونقطة البدء عنده هى أنه إذا كانت المطالب العادلة للمقهورين تقابَل بالعنف الزائد من القاهرين، ليس فقط تكراراً، ولكن عبر أجيال متعاقبة، ويفرق «إلاكوريا» بين ثلاثة أصناف من العنف: البنيوى - المؤسسى، والقمعى - الإرهابى، والثورى. فى الأول تتشكل بنية النظام المجتمعى ومؤسساته بحيث تفرض على الغالبية الساحقة من السكان العيش فى فاقة بائسة تهدد حياتهم ذاتها طوال الوقت. وهذا هو أشد أنواع العنف فظاظة ولاإنسانية؛ لأنه متجذر فى البنية المجتمعية ولا يُسمح بالفكاك منه من دون إصلاح جذرى للبنى المجتمعية لا يتأتى هيِّناً.
ويقوم الصنف الثانى على القمع المنهجى والمستمر لغالبية الناس. فى البداية، تُستعمل وسائل تبدو فى الظاهر غير عنيفة فى مجال صناعة الأيديولوجيا، مثل المؤسسات الدينية والتعليمية ووسائل الإعلام لضمان وداعة الناس. ولكن عندما تظهر قلة فعالية هذا الصنف من العنف «الرفيق»، لا تتورع الأقلية الممسكة بمقاليد القوة عن اللجوء لأشكال من القمع أشد عنفاً بحجة حماية «الأمن القومى» كواجهة خداعة لأمن البنى المجتمعية الجائرة وأجهزتها السياسية القمعية.
هذان الصنفان من العنف: البنيوى - المؤسسى، والقمعى - الإرهابى، يستفزان، ولا غرابة، الصنف الثالث، أى العنف الثورى. حين يصبح العنف الثورى الاستجابة الحتمية لصنفى العنف الأشد منه ضراوة، ذلك العنف المتمثل فى الصنفين الأول والثانى، الذى يحول دون أى وسيلة سلمية وفعالة للقضاء على القهر والخلل البنيوى الذى ينتج الفاقة والتعاسة بل ويهدد الحياة ذاتها.
ومن ثم، فإن المطالبة بنبذ العنف والتمسك بالحلول السلمية يتعين أن تركز على العنف الأولى، أى المنشئ لصنوف العنف الأخرى؛ فالمطالبة بالسلم يجب أن تقع على المطالبة بالقضاء على العنفين البنيوى والقمعى، وليس على العنف الثورى.
فتقدُّم البشرية يتطلب أن يصبح قسم متزايد من الناس، وصولاً إلى الجميع نهاية، حراً ليحقق كل منهم ذاته وصالح مجتمعه. ومن ثم، فإن تقدم البشرية يعنى فى الأساس تحرير البشر، وهو المسئولية الأساس لبنى البشر جميعاً تجاه الإنسانية. وهذه هى الطيِّبة الأعلى عند «إلاكوريا»، حتى أعلى من السلم ونبذ العنف.
ألا يتعيَّن أن يكون هذا موقف البشر كافة؟