كان والده «صائغاً» ميسور الحال، وأمه «صفية خاتون» علّمته: أن الإنسان لا بد أن تكون له «رسالة» فى الحياة.. أهمها: مساعدة الفقراء، لأنها آمنت بأنك لن تحيا حياة سعيدة وهانئة فى بلد أغلبيته من السائلين والمحرومين والمساكين والتعساء من أبناء الشوارع المهمشين.
حصل «الابن» على منحة لدراسة الدكتوراه بأمريكا x الاقتصاد السياسى.. ثم عاد 1972 إلى «بنجلاديش» بعد أن نالت استقلالها عن الهند وباكستان، وحدثت «المجاعة» التى مات فيها 1٫5 مليون بنجلاديشى 1974.
آمن «الابن» بأن الحل: فى تغيير واقع الفقراء المزرى.. مؤمناً بأن كل تغيير يبدأ بصدام مع الواقع، فحين تعجز الأفكار والنظريات عن أداء دورها، يجب أن ننحيها جانباً ونفكر من جديد.. وقرر أن يعود تلميذاً من جديد، يشارك الناس بالقرى المجاورة للجامعة حياتهم، يفهم مشاكلهم وطرق حلها فى الواقع.. وجاءته «الفكرة» عندما رأى سيدة على حافة الترعة، تصنع «كراسى» من «البامبو» بتمويل من أحد القادرين بالقرية، المشارك بالتمويل وهى بالمجهود، كانت تربح يومياً 4 دولارات.. اثنان لها ولأسرتها المكونة من خمسة أطفال يتامى الأب، والشريك الممول يحصل على دولارين.. فسألها عن قيمة القرض، وكانت المفاجأة أنها 30 دولاراً هى رأس المال الذى تحتاجه وقتها.. فأخرج من جيبه 27 دولاراً كانت معه.. وأعطاها للسيدة كقرض حسن تسدده على أقساط بعد سماح 6 أشهر.. واحتفظت هى بالأربعة دولارات ثم خمسة وستة وسبعة لأولادها، واشترط عليها إدخالهم المدارس، وتدريبهم على الإتقان والتجويد فى العمل، وبعد 5 سنوات امتلكت متجراً ومعرضاً صغيراً.
جلس «الرجل» مع تلاميذه بالجامعة، وفكروا فى كيفية الحل.. وخرجت فكرة إنشاء بنك للفقراء سموه بنك «القرية».. حاول إقناع البنك المركزى أو البنوك التجارية، للمساهمة x الفكرة لوضع نظام خاص لإقراض الفقراء دون ضمانات.. مما دعا رجال البنوك إلى السخرية من فكرته، زاعمين أن الفقراء ليسوا أهلاً للإقراض!
صمم الأستاذ على «فكرته» وهى: منح أبناء الطبقة الفقيرة جداً قروضاً بسيطة تمكنهم من الخروج من دائرة الفقر، مؤمناً بأن القرض هو حق من حقوق الإنسان، وبما أن الفقراء لا يملكون الضمانات للحصول على قروض، فالبنوك تنحاز لتعزيز غنى الأغنياء، وتكريس فقر الفقراء.. كما آمن بأن المدخل هو تحسين أوضاع النساء، وأن «المرأة» يمكنها أن تهزم الفقر إذا حصلت على قروض بسيطة، تبدأ بها مشروعات إنتاجية وتجارية صغيرة، أو توسع بها نشاطها المحدود.. واقتنع الجميع من تلاميذه وأصدقائه، وأهل القرى المجاورة للجامعة بأن الأساس لتحسين أحوال الأسر الفقيرة هو المثل الشهير: «لا تعطنى سمكة، بل علمنى كيف أصطاد».. وأنه إذا توافر التمويل مع التدريب، فهؤلاء الملايين من الفقراء سيحققون من مشاريعهم الصغيرة أكبر أعجوبة تنموية فى البلاد.
وساهم صاحب الفكرة مع تلاميذه وزملائه وأصدقائه، وكل من اقتنع بالفكرة فى تأسيس هذا البنك.. وانضم إليهم بعض الميسورين، ثم بعض المنظمات الخيرية المحلية والدولية.. وبعد عامين أصبح له فروع بالمنطقة، وفى كل أنحاء بنجلاديش.. وصلت بعد عشر سنوات إلى الهند - باكستان - ماليزيا وحتى بوليفيا بأمريكا الجنوبية، حتى اقتنع البنك المركزى الذى دخل بـ6٪ من رأس المال، وبدأ الكل فى تقليده حول العالم بأشكال مختلفة.
تقوم «فكرة» بنك الفقراء أو «بنك القرية» على:
1- منح الفقراء قروضاً متناهية الصغر، خاصة للسيدات (97٪ من المقترضين هناك الآن)، لعمل مشروعات إنتاجية صغيرة، يمكن لكل «خمس سيدات» التجمع فى مشروع واحد.. وصلت الآن، أن القرى كلها عادت إنتاجية واشتهرت بصناعات معينة، طبقاً للميزة النسبية لكل منطقة.. فتجد مجموعة قرى زرعت أشجار التوت على حافة الترع والمصارف لتربية «دودة القز» لصناعة الحرير الطبيعى، وقرى مجاورة اشترت «أنوالاً» لنسج خيوط الحرير، وقرى لصناعة السجاد اليدوى من خيوط الحرير، وإقامة معارض محلية للبيع أو للتصدير.. والقرى المزروعة بالفاكهة أو الزهور. أنشأت النساء مناحل لإنتاج عسل النحل.. وتعبئته وتغليفه وتسويقه، وهكذا فى تربية الطيور - الأسماك.. المفروشات اليدوية إلخ إلخ، لتتحول كل قرية إلى خلية عمل.. وفى ذلك فليتنافس المتنافسون.
ونجحت «الفكرة» نجاحاً باهراً.. رغم كل الشائعات والحروب والاتهامات فى البداية.. والآن أصبح للبنك فى بنجلاديش 2500 فرع، ونسبة السداد للقروض 98٪ (فى البنوك العادية 94٪) لأن الفقراء لا يملكون سوى كرامتهم وعزة نفسهم، ولا يقبلون التهرب أو الفضيحة وسط أهلهم وأقرانهم!
وأنشأ البنك صندوقاً للتأمين على الحالات المتخلفة عن السداد، ومن يموت أو يعجز عن العمل.. و.. و..
الخلاصة أن شخصاً واحداً بفكرة جديدة وإصرار على نجاحها استطاع أن يغير حياة 17 مليون بنجلاديشى، منهم 7 ملايين أصبحوا مساهمين بالبنك «بنك القرية» وفخورين بوضعهم الاجتماعى الجديد «من متسول إلى مساهم فى بنك»! وفاز صاحب «الفكرة» ومؤسسها د. محمد يونس بجائزة نوبل.. هذا النجاح العالمى الباهر الذى جعله نموذجاً وقدوة، حققه لأنه لم يوظف «الفكرة» أو يستغلها سياسياً أو دينياً!!
السؤال: هل يمكن الاستفادة من هذه التجربة؟.. فنقيم هذا البنك بفروعه بأموال التبرعات التى يمكن أن تصل إلى أربعة أو خمسة مليارات.. أم ستُترك هذه الأموال فى حسابات مجمّدة وننسى الموضوع مع مسلسلات رمضان، وكحك العيد، وهيصة الانتخابات البرلمانية، والصراعات السياسية، ونغرق فى مشاكلنا اليومية.
صباح الخير سيادة الرئيس: أرجوك لا تحمّل نفسك أكثر من طاقتها، وتصبح المهيمن والمشرف والمسئول عن كل حاجة وكل صندوق.. وزع المهام والمسئوليات.. جمّع الخبراء والعلماء الموثوق فى أمانتهم ونبلهم.. مصر مليئة بهؤلاء فى كل المجالات، فلماذا لا تستعين بهم؟
بعيداً عن «عبدالعاطى».. كفاية عبدالعاطى 50 سنة «قرفنا من الكفتة ولخمة الراس» ابحث عن الجادين من العلماء والخبراء والمتخصصين المبدعين الخلاقين المبتكرين الذين لديهم حلول خارج الصندوق، ليساعدوك ويعاونوك فى مواجهة التحديات.
سيدى الرئيس: أكرر، نحن نملك كل مقومات الإقلاع والطيران لسماء العالمية، ولن يحدث ذك دون «ماستر بلان» «رؤية» لمصر تضع استراتيجيات للمشروع الحضارى، وسياسات وبرامج وآليات وترتيب أولويات، وإن لم تكن هذه «الرؤية» موجودة.. انتهز فرصة مسلسلات رمضان. وفتة العيد وهيصة الانتخابات، يعنى 4 شهور ضياع، اطلب فيها من الخبراء والمتخصصين المدنيين والعسكريين «يجهزوها».. عشان مصر تبقى «قد الدنيا»، وهتبقى إن شاء الله رغم أنف الكارهين والخرفان.
ونستكمل الجمعة..