الصيام حكم دينى، يعنى التزاماً شخصياً، ليس من حق أحد أن يراقب أحداً فيه إلا على سبيل التربية والنصيحة بإرادة الطرفين؛ لأن الرقابة فى الصوم إن كانت ممكنة عند التلاقى فكيف ستكون عند الخلوة أو العزلة أو فى داخل البيوت؟
والسؤال الهادف فى إجابته إلى تربية النفس هو: لمن نصوم؟ إننا نصوم لله تعالى، إذن الأولى بمن يقدم الصوم لله أن يستر على نفسه صيامه؛ لكى يكون سراً بينه وبين الله فى أمر يخصه سبحانه وتعالى، وحتى لا نحرج المفطرين من أصحاب الأعذار كالمرضى والمسافرين. ثم إن من يتكلم مع الناس فى صومه وصلاته كأنه يتاجر بالعبادة، يريد أن يطلب عملاً أو وظيفة أو حقاً من المساعدة أو صوتاً انتخابياً أو غير ذلك من متاع الدنيا، ويعلن بأن مؤهلاته لاستحقاق ما يطلبه هى أنه يصلى ويصوم! عجيب صلاتك لمن؟! وصومك لمن؟! أنت تريد أجر الصلاة والصوم مالاً أو مناصب فى الدنيا، أم تريد رضا الله فى الآخرة؟
نحن الآن قلبنا الهرم الدينى، وجعلنا العبادة مظاهر ونفاقاً مع الله، كم من الناس لا تصوم ويكذبون بقولهم إننا صائمون؛ خوفاً من تهمة الكفر والفسق! وبهذا دفع أوصياء الدين بالشيطان على المفطر وجعلوه يكذب وينافق، وربما كان فطره بعذر فلماذا ندفعه إلى الكذب، لو كان الذى لا يصوم صادقاً لكانت جريمته -إن كانت جريمة، يعنى ليس له عذر فى الفطر- هى جريمة واحدة ليست مركبة؟ ولذلك كانت أفضل نصيحة لأوصياء الدين إن أرادوا النصح هى العمل بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (المائدة: 105).
والفطر فى رمضان من الأصحاء الذين لا عذر شرعياً لهم لن يضرّنا ولكن سيحرمهم من خير كبير ويصنّفهم من المخالفين لأوامر الله التى يؤمنون بها فى الأصل. نحن نؤمن بالله وبأركان الإسلام من الصلاة والصوم والزكاة والحج، فلماذا لا ننفذ ما نؤمن به؟ وإذا كنا قد نصحنا الأوصياء بالتزام حدود النفس وعدم الاعتداء على حريات الآخرين، فإن حق الفطرة الإنسانية الذى زكاه الإسلام يوجب على أهل العلم والخبرة بذل النصيحة لمن يطلبها. لذلك فقد خصصنا هذه الأنبوشة الفقهية فى طرق تعود الصيام لمن يريد، مع مراعاة أن الكبير غير الصغير، وأن الكبير الذى تعود على شرب شاى بصفة دائمة أو سجاير طوال النهار، يختلف عن الآخر الذى لم يتعود على هذه العادات.
أولاً: طرق تعود الصغير والصغيرة اللذين هما دون سن المراهقة الصيام. هؤلاء البراعم لا يزالون فى مرحلة التكوين، ويمكن تعويدهم على الصوم بمبدأين: مبدأ التيسير ومبدأ التشجيع.
1- أما مبدأ التيسير فالمقصود به: تبسيط أداء الصوم وتخفيفه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183)، فالشعور بالصيام الجماعى من قديم الزمان يهون المسألة، وإدراك أن الصوم لأيامٍ معدودات، تمر بسرعة، ستصبر على أدائه. ومن التيسير على الصغير والصغيرة أن يمارس الصوم من صغره بمجرد أن يصل إلى سن التمييز خمس أو ست سنوات حتى يتعود شيئاً فشيئاً، ويجب أن يكون صوم الصغير تدريجياً؛ لأن الله فرض على المسلمين الصوم بالتدريج، فقد كان صوم الفرض فى أول الأمر هو يوم عاشوراء فقط، ثم ثلاثة أيام من كل شهر، ثم فرض صيام رمضان بالتخيير أى إن شاء صام وإن شاء أطعم مسكيناً عن كل يوم يفطره، ثم أصبح الفرض محكماً بقوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: 185)، إلا على المريض والمسافر. لذلك يجب أن تعود طفلك الذى بلغ سن التمييز والوعى الصوم تدريجياً، يصوم الأيام الأولى إلى أذان الظهر، والأيام الوسطى إلى أذان العصر، والأيام الأخيرة يكمل إلى أذان المغرب، وهذا على سبيل المثال فى التدريب وليس ديناً ملزماً.
2- المبدأ الثانى لتعويد الصغير والصغيرة صيام رمضان هو التشجيع بالحوافز. وكل والد أو من فى حكمه هو الأعلم بمفتاح ابنه أو ابنته، فمن الممكن أن يكون مفتاح شخصية ابنك أو ابنتك بالروحانيات أو الرقائق التى يسميها البعض غيبيات أو إيمانيات، فعليك أن تستثمر هذا المفتاح ليدرك الطفل أن الله تعالى يحب كل الطاعات لكن الصوم أكثر، الذى خصص لأصحابه باباً فى الجنة؛ كما أخرج البخارى عن أبى هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال عن رب العزة: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لى وأنا أجزى به، ولخلوف (رائحة فم الصائم) أطيب من ريح المسك»، وأخرج مسلم عن أبى هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصوم فإنه لى وأنا أجزى به؛ يدع شهوته وطعامه من أجلى، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه. ولخلوف فيه (فمه) أطيب عند الله من ريح المسك». والتأكيد على خلوف (رائحة) فم الصائم؛ لأن البعض يتأثر عندما يجد رائحة فمه ليست طيبة من الصوم، لكن عندما يعتاد الصوم فستنتهى هذه الرائحة غالباً.
ولا تنسَ أن تقول لابنك وابنتك حديث سهل بن سعد فى البخارى مسلم: أن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن فى الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل معهم أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيدخلون منه، فإذا دخل آخرهم أغلق فلم يدخل منه أحد».
ومن الممكن أن يكون مفتاح شخصية ابنك عند صاحبه، ومفتاح شخصية ابنتك عند صاحبتها، فعوّد نفسك تصاحب صاحب ابنك، وتجعل الأم تصاحب صاحبة ابنتها. وربما جُعل مفتاح شخصية الإنسان عند صاحبه حتى يحب الناس بعضهم بعضاً، أو على الأقل يتعاونون؛ لأنك إذا أردت الوصول إلى مفتاح شخصية ابنك فلن تصل إليه إلا عن طريق صاحبه غالباً، وجارك كذلك، وأخوك كذلك، فالناس كلهم سيكونون فى حاجة إلى بعض. ومن خلال صاحب ابنك ستقدر أن تجعلهما (ابنك وصاحبه) حريصين على الصوم؛ لأن صاحب ابنك سيستمع إلى كلامك أكثر من تعليمات أبيه، وأيضاً ابنك سيستمع إلى كلام والد صاحبه أكثر من تعليماتك، هذه سنة الحياة التى يعرفها أساتذة علم النفس، وهم الأقدر على تحليلها. ولنا أن نتعظ بقول الله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (الزخرف 67)، وما أخرجه أحمد والحاكم عن أبى هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل»، وأخرجه أبوداود والترمذى بإسناد حسن بلفظ: «الرجل على دين خليله».
ثانياً: طرق تعود الكبار من سن المراهقة الصيام: إن الكبار الذين لم يعتادوا الصيام من الصغر، وبعضهم قد اعتاد عادات تصعّب عليه الصوم مثل شرب المكيفات من الشاى والقهوة والسجاير وغيرها، يتساءل بعضهم كيف يدرك نفسه ويصوم حتى يرضى الله؛ لأنه ليس له عذر يسمح له بالفطر، فليس هو مريضاً ولا هو مسافر، ولا هى حائض أو نفساء، المشكلة أنه لم يتعود الصوم وهو صغير. والجواب هو أن نرى هذه المشكلة بسيطة وليست معقدة لمن يريد الحل ويُلزم نفسه بالصوم مثل كل الناس، وكما أمرنا الله عز وجل. والبداية تكون من اكتشاف العدو الحقيقى للإنسان وهو النفس الهوائية المنفلتة وليست النفس البريئة المنضبطة؛ كما قال تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّى إِنَّ رَبِّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (يوسف: 53). وأفضل من يقاوم النفس الأمارة بالسوء هو صاحبها؛ كما قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِى اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِير}(الحج: 78).
وجاءت أحاديث كثيرة تدعو الإنسان لجهاد نفسه الأمارة بالسوء، وهى وإن جاءت بأسانيد ضعيفة لكن كثرتها تقوى بعضها بعضاً، ومن ذلك:
(1) ما أخرجه الديلمى والخطيب البغدادى عن جابر: أن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه بعد رجوعهم من غزوة عسكرية: «قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: مجاهدة العبد لهواه».
(2) وأخرج الترمذى وابن حبان بإسناد صحيح عن فضالة بن عبيد، أن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال: «المجاهد من جاهد نفسه فى الله».
(3) وأورد ابن حبان فى «جامع العلوم والحكم» أنه كان من وصية أبى بكر لعمر حين استخلفه: «إن أول ما أحذرك نفسك التى بين جنبيك»، وعن على بن أبى طالب أنه قال: «أول ما تنكرون من جهادكم أنفسكم».
وتختلف طرق مقاومة النفس التى تبعدك عن الصوم بحسب ما يناسبها، وكل إنسان أعلم بنفسه؛ فقد تكون مقاومة النفس المتعلقة بعادة شرب السجاير طوال النهار بالبعد عن أصحاب الكيف، أو تكون بعدم حملها، أو تكون بملازمة المسجد وقراءة القرآن والاستماع إليه، أو تكون بمضاعفة ساعات الشغل والانهماك فى العمل.
وأحياناً يكون الانتصار على النفس بالنوم والهروب من معركة مقاومتها، مثل ما ورد فى المثل العربى: «نوم الظالم عبادة». وهذه الجملة حكاها الملا على القارى (ت 1014هـ) فى «مرقاة الفلاح» عن بعض أهل العلم فى مقابلة حديث عبدالله بن أبى أوفى الذى أخرجه البيهقى فى «شعب الإيمان» والعسكرى فى «الأمثال» والديلمى فى «الفردوس بمأثور الخطاب» بسند ضعيف أن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال: «نوم العالم عبادة».
قال الملا على القارى: «نوم الظالم عبادة»، و«نوم العالم عبادة» بحسب اعتبارين مختلفين:
1- العالم ينوى بنومه التقوى والنشاط على العبادة.
2- الظالم ينوى بنومه البعد عن المعصية.
وإلى لقاء جديد غداً بإذن الله تعالى مع أنبوشة فقهية أخرى.