الأصل فى الخدمات العامة التى تقدّمها الدولة للمواطنين تيسير حياتهم فى مجتمع متحضّر، ويعنى هذا الغرض أن تتميز الخدمة بالكفاءة وأن تكون مجانية أو بسعر معقول. فالمواطن يموّل الدولة من خلال الضرائب، ولعل مساهمة المواطن البسيط أكبر نسبياً من الأغنياء، حيث تُجبى منهم الضرائب بأشكال لا يمكنهم الهرب منها، بينما يحابى النظام الضريبى الراهن الأغنياء، ويتفنن هؤلاء فى التهرُّب وتمكنهم مواردهم من إتقانه. وهذا مظهر آخر لغياب العدالة الاجتماعية يتعين على الدولة أن تكافحه. والغرض من هذا الاستطراد عن الضرائب هو تأكيد أن واجب معاملة مقدمى الخدمات للمواطنين أوجب فى حالة المواطنين البسطاء باعتبارهم ممولين أكبر نسبياً من الأغنياء، للخزانة العامة التى يأتى منها رواتب هؤلاء الموظفين العموميين.
ويتضمن الوضع المثالى لتقديم الخدمات العامة أيضاً أن يبدى مقدمو الخدمة للمواطنين الود والبشاشة نحو المواطنين، خصوصاً المواطنين البسطاء.
فالمواطن، لو يعلمون، هو رئيسهم الأعلى، لكونه رئيس جميع رؤسائهم الذين قد يخشون ويهابون، وصولاً إلى رأس الدولة، فجميع هؤلاء منتدبون من الشعب لأداء المهام التى تُوكل إليهم، لأجل موقوت ويحاسبهم على أدائهم لها. كما أن الشعب هو من يدفع مرتبات ومزايا موظفيه هؤلاء، وبعض هذه المزايا غير مستحق، وأقل الموظفين العموميين استحقاقاً لها هم من يقصّرون فى تأدية واجباتهم ثم يقترفون ذنب إساءة معاملة المواطنين، لا سيما الأرق حالاً.
وقد يظن القارئ أننى أمهد لنقد خدمات المياه والكهرباء، وهى تستحق الانتقاد مريراً، على الأقل لتكرار انقطاعهما مع الزيادة المستمرة فى تكلفتهما للمواطنين. وقد تبيّن أن الحكومة قد رفعت سعر المياه سراً منذ شهور، فى سابقة على الغش الحكومى والتدليس على المواطنين، فيما يُسمى تحت الحكم التسلطى المخادع بتحريك الأسعار للتعمية على فعل رفعها غير المبرر. وقد عمّت الشكوى من انقطاع الكهرباء المتكرر والمفاجئ، الذى يزداد طولاً بمقدم حرارة الصيف، حيث تشتد الحاجة إلى الكهرباء، ومن ثم يتعاظم عذاب انقطاعها عن المواطنين، والذى يزداد قسوة على المستضعفين فى الأحياء الفقيرة والقرى. هذا ناهيك عن مضايقات أخرى مثل كشاف العداد الذى يأتى فى أوقات يعلم أنه لن يكون أحد فيها بالمنزل ويترك لك ورقة يطالبك فيها بالقيام بعمله وإبلاغه بالنتيجة على تليفونه المحمول، بينما لا يأتى محصل الفواتير إلا فى الأوقات التى يعلم فيها أنه سيجد من يعطيه المال.
الكاتب من عباد الله الذين يشترون، أو يُهدون، كتباً من الخارج. وفى جميع بلدان العالم التى أعرف عنها -وهى كثيرة- يحمل ساعى البريد الكتب المرسلة من الناشرين إلى مشتريها. وقد تلقيت كتباً بالبريد فى جميع قارات العالم من دون أى مشكلة. إلا أن هيئة البريد المصرية الموقرة -على ما يبدو- تعتبر شراء الكتب من الخارج فعلاً آثماً يستحق من يقترفه العقاب والتهذيب.
منذ بضعة أيام تلقيت رسالة بالبريد الإلكترونى من ناشر خارج مصر يعتذر فيها عن عدم وصول كتب أرسلوها لى، لأن هيئة البريد المصرية أعادتها لهم لأنه «لم يأتِ لاستلامها أحد». وانظر فى المأساة: هيئة البريد المصرية تتحمّل عبء إعادة إرسال الكتب إلى الخارج ولا تتنازل وتسلمها لصاحبها فى مصر. وعندما بحثت فى الأمر وجدت أن هيئة البريد تترفّع، أو يترفّع سعاتها -دون أن يتفهموا معنى تسمية الوظيفة بالساعى- عن حمل الكتب إلى أصحابها. وإنما يكتفون بإرسال إخطار ويطلبون من صاحب الكتاب أن يحضر بنفسه إلى مكتب البريد وأن يدفع رسوماً جمركية ورسوم إجراءات، وحتى رسماً لإخطار الوصول الذى يعلن فشل الهيئة فى القيام بوظيفتها التى يؤجر عليها جميع العاملين بها، وأن يقوم بهذا خلال ثلاثة أيام فقط وإلا دفع إضافة ما يسمى رسوماً أرضية، أو يستعوض الله فى الكتب المرسلة إليه. وللأسف، بين الانشغال والسفر لم يتمكن شخصى الضعيف من تلبية طلبات الهيئة الموقرة، فعُوقبت بإعادة كتبى إلى ناشرها فى الخارج. إن هيئة حكومية تفرض معوقات ورسوماً كهذه على استحضار الكتب بالبريد تقضى على بعض إمكانات المعرفة، وهى معيار التقدم فى هذا العصر، ناهيك عن فشلها التام فى أداء الوظيفة المجتمعية التى أُنشئت من أجلها ويؤجر العاملون بها عنها من الخزانة العامة التى يمولها الشعب المفترض أن يستفيد من الخدمة.
(2) مغامرة فى مكتب جوازات السفر
للحق استقبلنى على المدخل أمين شرطة نابه وكفء وأرشدنى إلى الخطوات التى علىّ أن أقوم بها، ولكن بعدها بدأت المعاناة. الجو حار وشديد الازدحام لأن المكان المخصص لطالبى الخدمة شريط ضيق يتزاحمون فيه على نوافذ الخدمة ولا يوجد مكان انتظار آدمى يستوعبهم ويريحهم. ولحسن حظى لم يكن من زحام على النافذة التى وجهنى إليها صاحبنا عند المدخل. وعندما وصلت إلى غايتى وجدت موظفة شديدة التجهم أمرتنى بتصوير عدة صفحات من جوازى وبطاقتى الشخصية وكتابة طلب لرئيس المكتب. ولا أدرى سر إصرار كثير من المصالح الحكومية على تصوير صفحات من وثيقة أصدروها ويحتفظون بأصول وثائقها. ولمَ لا يتولون تصويرها ولو اقتضوا رسوماً على المهمة. المهم، خرجت إلى معركة تزاحم أخرى على كشك لتصوير المستندات خارج المبنى وعدت إلى صاحبتنا، متصوراً أننى فزت بالغنيمة. ولكنها صدمتنى بالقول: امضيها من الباشا فى شباك 10. وعندما حاولت الاقتراب من شباك الباشا، منعتنى حشود من عشرات الأجساد البشرية المتدافعة على النافذة الوحيدة التى يتعيّن على جميع طلاب الخدمة المرور عليها. ولما كانت قدراتى على التدافع شبه منعدمة، فقد حاولت الشكوى أو الاستعطاف علّ أحداً يرأف بحالى ويعاوننى. ولما تكرّم أحد بالرد على استعطافى لم يزد على أن قال لى «كلم الباشا» فى شباك 10، فداوانى «بالتى كانت هى الداء»! ولم يكن من حل أمامى إلا أن أغادر متعجباً من عدم اهتداء مصلحة الجوازات إلى الحل اليسير بإعطاء أرقام مسلسلة لطالبى الخدمة والنداء على من يحل عليه الدور، الذى اهتدت له بعض الأعمال الخاصة الصغيرة. كان علىّ أن أعود مرة أخرى فى وقت يقل فيه الازدحام فعُدت فى صباح اليوم التالى قبل موعد بدء العمل وانتظرت حتى فُتحت الأبواب. ولكن عند وصولى إلى النافذة المختصة فوجئت بغياب السيدة المتجهمة. استعطفت زميلة لها توسمت فيها خيراً فرقّت لحالى وقامت بالمطلوب تكرُّماً. وعدت فى صباح اليوم التالى مبكراً لاستلام الجواز فلم أجده فتجاسرت ودخلت على رئيس الوحدة مكتبه الخاص وقد كان للحق شهماً وطفق يبحث عن الجواز فى إرجاء المكتب إلى أن وجده وسلمه لى. ولكن فى المحصلة استغرقت المهمة البسيطة أربع زيارات عبر ثلاثة أيام.