ظاهرة يكاد ينفرد بها الإعلام المصرى (التليفزيونى) فى السنوات الأخيرة وهى كونه «إعلام مذيع»، بمعنى وجود «مذيع نجم» (لامع جدا) أو أكثر فى كل قناة يحتكر الميكروفون والكاميرا «وحده» أو بمشاركة هامشية وضئيلة من ضيوف باهتين يحركهم بطريقته ليؤكدوا فكرته ويعمّقونها بوعى منهم أو دون وعى. ويظل المذيع «النجم» اللامع يوجه الجمهور والرأى العام إلى ما يجب وما لا يجب، ويطرح القضايا ويناقشها من وجهة نظره الشخصية ويبت فيها، ويعمل ليس كإعلامى ينقل الخبر ووجهات النظر المختلفة إلى الجمهور أو حتى يتلقى آراء الجمهور، ولكن يعمل كمعلم وكزعيم وكناشط سياسى وكمربٍّ ومؤدب للشعب أحياناً. وقد ساعد على نشأة ظاهرة المذيع «النجم» انتقال عدد من الصحفيين والكتّاب للعمل كمذيعى تليفزيون، وكان لديهم الإحساس بأنهم ليسوا مجرد مذيعين ينقلون الأخبار أو يناقشون الضيوف والمتخصصين، ولكنهم أصحاب رؤية ورأى.
وأداء المذيع النجم يتسم غالباً بالثرثرة و«الردح» والترويج السياسى والحشد لمصلحة شخص أو سلطة، والتحريض ضد من يراهم مخالفين لتوجهاته أو لأجنداته. وكان الغطاء الشرعى لكل هذا فى الفترة الماضية هو «الوطنية المصرية» و«الحفاظ على كيان الدولة» من الانهيار، إذ حمل المذيع النجم (والمذيعة النجمة) لواء الوطنية واحتكروا صكوكها.
ولما كان المذيع النجم (والمذيعة النجمة) يتقاضى راتبه الكبير جداً من صاحب القناة الخاصة المملوكة لرجل المال والأعمال والمرتبطة مصالحه بمؤسسات معينة وأشخاص معينين، لذا كان المذيع النجم يتحرك بوعى أو بلا وعى، طبقاً لتوجّهات صاحب القناة الذى هيّأ له الراتب الفلكى والشهرة الطاغية والجاه والوجاهة، ولما كان المذيع «النجم» غير قادر على الاستغناء عن هذه المزايا، فإنه يصبح -دون أن يدرى- أسيراً لهذه التوجهات ومدافعاً مخلصاً عنها، ولهذا وقع المذيع «النجم» فى الفخ دون أن يدرى ودخل المصيدة بإرادته وإرادة موجهة، ولكى يستمر فى هذا الطريق دون تأنيب من ضمير فإن دفاعاته النفسية (اللاشعورية) تعمل على تبرير كل ما يقوله ويفعله وتضفى عليه مشروعيات وطنية وأخلاقية، ومع مرور الوقت يفقد المذيع «النجم» قدرته على تفحُّص أفكاره وتوجهاته وينسى مبادئه التى طالما اعتنقها وضحى من أجلها قبل أن يصبح نجماً، وفى هذه المرحلة يصدق المذيع النجم كل ما يقوله ويفقد القدرة على النقد الذاتى، ويفقد القدرة على سماع انتقادات الآخرين له (فذاته المنتفخة لا تسمح بذلك) فيقع فى حالة تزييف وعى ذاتى إضافة إلى تزييف وعى جمهوره الذى يخاطبه.
ولما كان المذيع النجم (والمذيعة النجمة) يقضى ساعات طويلة منفرداً بالميكروفون والكاميرا لعدة أيام خلال الأسبوع ولعدة سنوات، فقد حدثت للكثيرين منهم ما تُسمى بـ«ظاهرة الاحتراق»، وهى حالة من الملل والتكرار النمطى الرتيب وعدم القدرة على تقديم جديد، ولكن المذيع النجم لا يستسلم ويحاول أن يكسر هذه الحالة باستغلال أى حدث جديد وتضخيمه وتلوينه والبحث عن غرائب الأشياء وفرضها على الناس كظواهر تستحق الاهتمام والمتابعة، وقد يسعى لإشعال الصراعات وتسخين المواقف والأحداث كى يظل مبهراً ومتوهجاً أمام الكاميرات وأمام من يدفع له الراتب الفلكى وأمام نفسه وأمام جمهوره الذى أدمن مشاهدته.
وقد تفرح السلطة بالمذيع النجم وتحاول توظيفه لتمرير سياساتها وإقناع الرأى العام بتوجهاتها، وهنا يزداد المذيع النجم شعوراً بأهميته وتتضخم ذاته وتنتفخ لديه الأنا ويشعر أنه أصبح حارساً للأمن القومى وأن دوره حيوى للغاية للحفاظ على كيان الدولة، بل وعلى الوطن نفسه، ويتحوّل فى هذه المرحلة إلى دور المعلم والوصى والملهم تجاه الجمهور، فهو الذى يشكّل وعيه ويحرك وجدانه ويحدد توجهاته ويعرف ما يضره وما ينفعه، وقد يزدرى جمهوره ويصفه بالجهل والسفه إذا خالف أمره وتوجيهاته وتوقعاته، وهنا تتحقق حالة الديكتاتورية الإعلامية والاستبداد النرجسى للمذيع «النجم».
والمذيع النجم يعمل لصالح ذاته غالباً، ولذلك يتحول وتتحول قناعاته مع التحولات السياسية وتغيرات موازين القوى، فلديه بوصلة حساسة لتوجهات السلطة والثروة ولديه الموهبة والكفاءة والمهارات اللغوية والأدائية التى تمكنه من الدفاع عن الموقف ونقيضه بهدف بقائه فى بؤرة الشهرة والثراء والتألق والنجومية والتأثير.
وقد يبدأ المذيع النجم بقدر بسيط من النرجسية فى شخصيته، ولكن مع الوقت تتأكد لديه السمات النرجسية، فهو لا يحب إلا نفسه ولا يرى غير ذاته ويستعمل الآخرين لتأكيد نجوميته ثم يلقيهم بعد ذلك فى أقرب سلة مهملات، وتراه مهتماً بصحته وبشياكته وبصورته بشكل مبالغ فيه، وإذا كان يناقش ضيفاً فإنه لا يعطيه الفرصة لطرح أفكاره، بل يقاطعه كثيراً ويفرض عليه مساراً للحوار وكأنه يريده أن يضع كلمات بعينها يكمل بها مساحات يحددها له المذيع النجم، لكى يصل إلى تأكيد الفكرة التى يريدها أو يريدها صاحب القناة أو تريدها السلطة.
والنتيجة النهائية هى تزييف وعى الجمهور وتزييف وعى المذيع النجم ذاته والوصول بالمجتمع إلى حالة من الضبابية والارتباك واضطراب الأولويات وشيوع الكذب والانتهازية والأنانية والتهويل والتهوين والتخوين، وكلها أمراض انتقلت من المذيع النجم نفسه إلى الفضاء المجتمعى مدعومة بإبهار الصوت والصورة والحركة والديكور والأضواء.