إن الإفراط فى تغليظ العقوبة على المخالفين واختلال التوازن بين العقاب والثواب يفتت المجتمع ويزرع البغضاء بين بعض فئاته والبعض الآخر، ويوغر صدور عموم الناس على المتنفذين فى البلاد وعلى متخذى القرار خاصة.
لا ريب فى أن قدراً من الانضباط والحسم قد صارا مطلوبين فى مجتمع كمصر ترهّل وتفشى فيه الخمول والتراخى وقلة الجهد وفتور الهمة. ولكن يخطئ من يتصور أن سبيل استعادة الانضباط هو الإفراط فى تغليظ العقوبات والتشدد فى القسوة فقط.
فى التنزيل الحكيم أنه «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» (آل عمران، 159). وفى مقال آخر أنقل للقارئ قطعة من الأدب العربى الرفيع يصف فيها أبوحيان التوحيدى تعنيف الخليفة المعتضد لوزيره بسبب نصيحة الوزير بأخذ مجموعة معارضة بالشدة العنيفة، ويُوجِّه الخليفة وزيره بأخذهم باللين والرحمة.
ولكن المراقب لأحوال مصر منذ بدء ولاية الرئيس الحاكم لا يمكنه إلا أن يلاحظ موجة هائلة من الإفراط فى تغليظ العقوبات، باستعمال القانون الجائر فى أحيان وبالخروج على القانون أو تجاهله فى أحيان أخرى.
يقيناً لا يمكن اعتبار الرئيس مسئولاً وحده عن هذه الموجة من القسوة التى استشرت بمجرد توليه المسئولية، خصوصاً أن القسم الأكبر من موجة القسوة ناجم عن تغليظ القضاء للعقوبات فى قضايا تخص بالأساس أتباع وأنصار جماعة الإخوان الضالين التى ارتكبت -بلا نزاع- آثاماً لا تُغتفر أثناء قبضها على السلطة وبعد إسقاطها، حيث المفترض أن القضاء مستقل عن السلطة التنفيذية التى يرأسها رئيس الجمهورية. ولكن فى أنظمة حكم كمصر نعلم أن يد الرئيس هى الطولى وأنه لا يعدم وسائل من داخل السلطة التنفيذية ودوائر أخرى للتأثير فى القضاء، كما أن النزعة السائدة فى التعامل مع نظم الحكم الرئاسية هى توجيه الثناء إلى، كما إلقاء اللوم على، رئيس الدولة باعتباره قمة منظومة الدولة، خاصة فى غياب مجلس نيابى وانفراد الرئيس بالسلطة كما هو الحال فى مصر الآن.
ولذلك، فإنه لا يمكن تبرئة ساحة الرئيس تماماً من هذا المد الكاسح من القسوة الذى اجتاح البلاد بمجرد توليه، ولو من باب رغبة المرؤوسين فى تملق الرئيس عن طريق تبنى ما يتصورونه رغباته، خصوصاً أن هناك تصريحات من مسئولين تنص على أنهم يتصرفون بتوجيهات مباشرة منه. فهناك تصريح منشور من وزير الرى مثلاً يقول: «الرئيس أبلغنا بحزم: من يرفع يده عليكم خلال إزالة التعديات على النيل اضربوه بالنار». هكذا، من غير إحالة لقضاء ولا تطبيق لقانون البلاد، وبالمخالفة الصريحة للدستور السارى! لا ريب أن نطق الرئيس يحمل قدراً من المجاز. ولكن ليس هكذا تُحكم الدول المدنية، ولا حتى النظم العسكرية تبيح ذلك.
ومصداقاً لذلك التوجه فقد شهدت الأيام الأولى من الوزارة الجديدة/ القديمة جولات عاصفة لوزير الصحة أقال فيها مديرى مستشفيات ومسئولين كباراً من دون إعمال الإجراءات القانونية السليمة.
غير أن القضاء يحتل، لا ريب، قمة موجة الإفراط فى تغليظ العقوبات هذه. فقد تضمّن حكم واحد قرابة المائتين من عقوبة الإعدام، وبسبب كثرة عدد المتهمين تخطت جملة أحكام السجن فى حالة محكمة واحدة آلاف السنين. ويزعم أنصار المحكوم عليهم بأن المحاكمات لم تكن منصفة أساساً بسبب قلة احترام حق الدفاع وقصور الأدلة التى غالباً ما اقتصرت على تحريات الشرطة بواسطة ضباط الأمن الوطنى. ولا يصح هنا القول بأن مرحلة تالية من التقاضى يمكن أن تنقض مثل هذه الأحكام وتخفف منها، فهذا ما زال فى علم الغيب من ناحية. ومن ناحية أخرى، فأياً كان الحكم النهائى فقد وقع فعلاً الإرهاب والترويع بسيف القانون، وتسبب فى مآس وجروح أسرية ومجتمعية يصعب أن تندمل بيسر.
ولعل أشد حملات «الانضباط» صخباً، وربما أفدحها ظلماً، هى تلك التى شنتها وزارة الداخلية العتيقة على الباعة الجائلين الذين كانوا يشغلون -من دون وجه حق بالتأكيد- مناطق بالشوارع والأرصفة بدعوى «عودة هيبة الدولة وتطبيق القانون وتفعيله على الجميع دون تمييز». المأساة أن هذا الانضباط كان يعنى قطع أرزاق عشرات الآلاف من الأسر المطحونة وأحياناً تدمير رأس المال البسيط الذى تمتلكه فى بلد يعانى من الفقر والكساد، وأن الدولة الباطشة لم تكلف خاطرها بإيجاد حل فعال لتحايل هؤلاء الغلابة على أرزاقهم قبل أن تعجّل بالعقاب والتخريب أساساً لخدمة القلة من المترفين أصحاب السيارات. كذلك لم نجد لهيبة الدولة وتطبيق القانون أثراً يُذكر فى منافحة جرائم المتنفذين مثل المتهربين من الضرائب وجلّهم من كبار المتمولين، ولا من شاركوا فى تهريب مليارات المصريين إلى الخارج وكلهم من المتنفذين، ولا من أسقطوا من المصريين شهداء ومصابين خلال سنوات الثورة الشعبية الأربع الماضية. فعبء الانضباط وتنفيذ القانون لا يقع فى الحكم التسلطى إلا على المستضعفين من المطحونين أصلاً فيحيل حياتهم جحيماً لا يطاق ويوغر صدورهم على من ابتلوهم بسوء الحال وضيق المعاش.
وعلى بشاعة جرم التحرش الجنسى وسفالة مرتكبيه فمن الصادم أن سيدتين -واحدة تشغل منصباً رسمياً وكانت سفيرة لمصر بواحد من أكثر البلدان الأوروبية تمدناً، والثانية إعلامية شهيرة- باقتراح إخصاء المتحرشين. ولا جناح على الثانية وإن كان يتعين على الجميع معرفة -واحترام- أن منظومة حقوق الإنسان والدستور السارى فى البلاد يضمنان سلامة الجسد البشرى ويحرّمان العقوبات القاسية والمهينة والحاطة بالكرامة الإنسانية لجميع البشر.
إن تفشى تغليظ العقوبات يخلق شعوراً بالظلم والهوان يؤسس لغياب الانتماء. ويعنى تفاقم الشعور بالظلم اشتداد الكراهية والبغضاء بين فئات المواطنين، خاصة بين المتنفذين والمطحونين بسب تنفذ الأوّلين، وتجاه رؤوس الحكم. وكل هذا يخل بالتوازن الصحى بين الثواب والعقاب أساس التنظيم المجتمعى السليم الذى يمكن أن يؤسس لمجتمع سوى ينهض بقوة انتماء مواطنيه له، ناهيك عن توافر أسباب الخروج على الحكم المقترن بالظلم فى أذهان فئات من المواطنين فى حركات الاحتجاج الشعبى التى تتراكم على صورة موجات ثورية شعبية احتجاجاً على تزاوج استشراء الظلم الاجتماعى والقهر السياسى.
ولا ريب فى أن مناخ الكراهية والبغضاء يرتب أعباء ضخمة لضمان أمن رأس الدولة وكبار المسئولين، وإلا ما كان على أجهزة الأمن المدنية أن تدفع بجيش صغير مكون من «30 مجموعة قتالية لتأمين الرئيس خلال حفل تخريج دفعة جديدة من ضباط الصف بالشرقية» كما أُعلن مؤخراً. ولا شك فى أن القوات المسلحة قد قامت بجهد مماثل، إن لم يكن أكبر، ولا كان عليه، كسابقه فى المنصب، أن يتحرك دائماً «وسط حراسة أمنية مشددة» كما تبلغ الصحف فى مثل خبر «وصل الرئيس عبدالفتاح السيسى رئيس الجمهورية فى موكب سيارات إلى مطار القاهرة الدولى، منذ قليل، وسط حراسة أمنية مشددة».