السياسة فى بلدنا تمر بأزمات متتالية، من هيمنة فصيل واحد على صندوق الانتخابات وغياب شروط نزاهة الصندوق من جراء الخلط بين الدينى والسياسى إلى ضعف حيادية مؤسسات الدولة وأجهزة الخدمة العامة وعملية كتابة دستور جديد تقوم عليها جمعية تأسيسية غير متوازنة وتخرج منها تحت ضغط الإسلام السياسى صياغات تنتقص من الحقوق والحريات.
إلا أن السياسة فى بلدنا تعانى من أزمتين إضافيتين لا تقلان خطورة عن أزمة صندوق الانتخابات وكتابة الدستور، وهما أولاً غياب الممارسة السياسية الموضوعية الهادفة لتطوير حلول حقيقية لأزمات المجتمع والمواطن وثانياً ضعف الأطر المؤسسية والتنظيمية التى يفترض أن يجرى بينها نهر السياسة ويحدث بها تفاعلاته.
فمن جهة، يعنى غياب الموضوعية أن الكثير مما تنتجه السياسة، فى دوائر الحكم والمعارضة على حد سواء، يتصف إما بالجزئية أو الشعبوية أو بالنزوع لتحقيق أهداف ضيقة دون اعتبار بالمصلحة العامة، الجزئية هى عين ما تفعله حكومة الدكتور هشام قنديل التى لم نرَ منها إلى اليوم لا رؤية متكاملة ولا خطة حقيقية للتعامل مع الأزمات المعيشية والاحتجاجات المتصاعدة والتغيرات المتوقعة فى السياسات الاقتصادية والاجتماعية. فقط إجراءات جزئية وإدارة للعمل الحكومى بصيغة «اليوم بيومه». الشعبوية تعنى ممالأة الجماهير وتوظيف تفضيلاتها ومخاوفها لخدمة أهداف سياسية وحزبية. الشعبوية هى جوهر فعل أحزاب الإسلام السياسى التى تنتقص من الحقوق والحريات فى الدستور الجديد وتبرر هذا عبر إخافة المصريات والمصريين من مخالفة الشريعة وتستغل التوافق المجتمعى حول مركزية مبادئ الشريعة فى التشريع والقوانين المصرية لفرض نظرتها الرجعية على المجتمع، خاصة فيما ارتبط بالحريات الشخصية والاجتماعية والثقافية وحرية الإبداع. الشعبوية أو ممالأة الجماهير هى أيضا عين ما تقوم به بعض أحزاب وتيارات المعارضة حين تعلن رفضها لقرض صندوق النقد الدولى دون دراسة جادة ودون طرح لبدائل حقيقية. الجزئية والشعبوية ترتبان هيمنة فئة من الحزبيين والتنفيذيين على السياسة هى أحيانا أقرب ما تكون إلى الانتهازية والعمالة المزدوجة (ظاهرة الليبراليين السائرين فى ركب العربة الإخوانية المنتصرة) وفى أحيان أخرى تنضح بمحدودية المعرفة وقصور الفكر (تزويج القاصرات والتعامل باستعلاء مع الاحتجاجات العمالية والمهنية)، والنتيجة هى سياسة تحقق أو تسعى فقط لتحقيق مصالح ضيقة، شخصية أو حزبية.
من جهة أخرى، تعانى السياسة فى بلدنا من ضعف الأطر المؤسسية والتنظيمية التى يفترض ممارستها وإدارة تفاعلاتها بها وبينها. أحزاب كثيرة أغلبها ضعيف والقوى بينها يعتمد على وزن جماعات دعوية ودينية أسسته. تحالفات وتكتلات وتجمعات ما زالت أطرها التنظيمية غامضة ومن ثم يتهددها التسخير لخدمة مصالح شخصية. جماعات ضغط ومصالح لا تظهر على السطح وتمارس عملها من وراء ستار كمجموعات أصحاب الأعمال التى تعمل اليوم مع الإدارة الإخوانية للدولة تماما كما عملت مع نخبة مبارك. عمل جماعى بين السياسيين والحزبيين فقير للغاية، بل ويضحى به عند الأزمة الأولى تغليبا للمصلحة الشخصية وللزعامة المراد الوصول إليها. والنتيجة هى أحزاب وتحالفات وجماعات مصالح لا تطرح على المصريات والمصريين حلولاً حقيقية أو تمارس عملاً جماهيرياً وسياسياً منظماً. فقط مؤتمرات صحفية ثم مؤتمرات صحفية وفردية شبه كاملة فى العمل.
لا تقل خطورة أزمة انتهازية السياسة والسياسيين وغياب الموضوعية وكذلك أزمة ضعف الأطر المؤسسية والتنظيمية عن الأزمات الأخرى التى تواجهنا. وظنى أنه لا خروج لنا من الأزمتين إلا بجيل جديد من ممارسى السياسة والعمل التنفيذى يأتى من المجتمع المدنى ومراكز دراسة صنع القرار والبدائل السياسية ومن الحياة الفكرية والثقافية التى ما زال صدقها يصنع نموذجاً مضاداً لانتهازية السياسة.