(هذه قصة للأطفال كتبتها عام 2001 من وحى انتفاضة الأقصى، ونالت جائزة هزاع بن زايد الإماراتية لأدب الأطفال، لكنها لم تُنشر من قبل، وظلت حبيسة الأدراج ثلاثة عشر عاماً، وأجدها الآن مناسبة كى أهديها إلى أطفال فلسطين، الذين قتلتهم طائرة إسرائيلية بلا رحمة وهم يلعبون على شاطئ غزة فى براءة، غير عابئين بحسابات قساة القلوب ومظلمى العقول من دهاقنة السياسة وتجار الدم)
■ ■ ■
وجاء الدور على عمرو. تقدم إلى منتصف الصف، ثم نظر إلى وجوه زملائه، وراح يحكى قصته مع جنود الاحتلال قائلاً:
«حين داهمت دبابات العدو مدينتنا كنت عائداً من المكتبة العامة، التى طلبت من أبى أن يدفع لى رسوم الاشتراك بها حتى أتمكن من استعارة الكتب والقصص وأقرأها فى إجازة نهاية الأسبوع.
كنت أسير على رصيف الشارع، وفجأة وجدت عدة جنود تتقدمهم دبابة يطلقون الرصاص فى اتجاه المارة فيجبرونهم على الفرار إلى بيوتهم. التصقت بمدخل إحدى البنايات لأرى ما سيحدث، بعد دقائق معدودات أمسك أحدهم بمكبر الصوت، وأخذ ينادى على شاب أعرفه جيداً. إنه محمود أبوحسين، الذى طالما اشترى لى الحلوى وأنا صغير، ولعب معى، وهو الذى علمنى الحروف الأبجدية وجدول الضرب وحبب إلى نفسى وعقلى قراءة الكتب الثقافية والعلمية، وظل يساعدنى فى استذكار دروسى حتى أصبحت فى الصف الأول الإعدادى كما ترون.
بعد دقائق خرج رافعاً ذراعيه إلى أعلى، وعرفت فيما بعد منه أنه لم يكن معه سلاح لكى يقاوم الجنود. وحتى لو كان معه سلاح فهو يخاف أن يجلب الهلع وربما الموت لنساء البيت. أمسكه الجندى من كتفه، وهزه بعنف شديد، ومحمود ينظر إلى عينى الجندى فى تحد وكبرياء.
وضع جندى بندقيته فى رأس محمود، وراح آخر يربط يديه من الخلف بشريط بلاستيكى أبيض، وتحرك بقية الجنود إلى الشارع الجانبى بحثاً عن فدائيين آخرين، وتركوا جندياً واحداً بجوار محمود يحرسه حتى تأتى العربة فيقذفونه داخلها مع رفاقه ليحتجزوهم هناك فى معسكر أقاموه خارج المدينة. وكنت قد شاهدت بالأمس فى التليفزيون كيف كان الجنود يقتلون بعضاً ممن يعتقلونهم، فشعرت بخوف شديد على محمود، ووجدت أن من واجبى أن أفعل شيئاً من أجله.
استعدت اللحظات الماضية حين كنت أشارك أطفال الحى فى قذف الجنود الإسرائيليين بالحجارة. كنت ممن يمسكون بالقادوم ليصنعوا أسناناً مدببة للأحجار الصغيرة، ويهشمون الأحجار الكبيرة إلى قطع يستطيع الصغار أن يقذفوها إلى أبعد مسافات ممكنة.
نظرت حولى فلم أجد حجراً واحداً، لكن عينى لمحت بلاطة غير مثبتة جيداً فى مكانها بمدخل البناية. أمسكتها بيدى، وضربتها على أولى درجات السلم بحذر شديد حتى لا يسمع الجندى صوت ارتطامها بالحجر فيعرف مكانى. شطرتها إلى نصفين، ونظرت إلى حيث يقف الجندى فوجدته قد أمر محمود بأن يولى وجهه إلى الحائط ويقف مستسلماً. أما هو فقد تراخى مع مرور الوقت، بعد أن اطمأن إلى أن أسيره لن يستطيع الفرار أبداً.
وشعر الجندى بالضيق من الخوذة الحديدية التى تغطى رأسه، فأزاحها إلى الخلف على عنقه، وأخذ يدلك جبهته بيده التى كان العرق يتصبب منها، ويده الأخرى تقبض على بندقيته من ماسورتها الأمامية.
وجدت أنها اللحظة المناسبة للانقضاض عليه. خرجت من مخبأى ورحت أسير على أطراف أصابع قدمى حتى لا يشعر بى، ونصف البلاطة المسنونة فى يمينى حتى صارت بينى وبينه ثلاثة أمتار فقط. وبكل ما أوتيت من قوة قذفت الحجر إلى جبهته فخر ساقطاً، فاقد الوعى، والدم يسيل على وجهه. والتفت محمود بسرعة ليرى ما حدث حين سمع صرخة الجندى الجريح، فوجدنى أمامه. قال وهو يتهلل فرحا:
ـ أنت بطل يا عمرو.
وجريت إليه، وأمسكت بيديه أحاول أن أفك قيده، لكنه كان قوياً ومحكماً وعصياً على التمزق. حاولت أن أقطعه بأسنانى، لكن دون جدوى. كان علينا أن نتصرف بسرعة قبل أن يعود الجنود فيجدون زميلهم على حالته هذه فيقتلوننا فى الحال. ولم يكن أمامنا حل سوى أن يجرى محمود على قدر ما يستطيع وأن أجرى خلفه ماسكاً يديه المربوطتين اللتين تعيقان سرعته.
عدنا إلى بيت محمود وتمكن أهله أن يفكوا قيده باستخدام المقص وسكين المطبخ والنار، وقفز من السطح الخلفى للبناية إلى بناية مجاورة، وهرب للانضمام إلى شباب المقاومة، الذين كنا نسمع صوت رصاص بنادقهم، وهم ملتحمون مع جنود الاحتلال فى معركة حامية تجرى على أرض أحد الشوارع البعيدة».
(ونكمل غداً إن شاء الله تعالى)