الصوم كما هو معروف، هو امتناع عن الطعام والشراب والرفث إلى النساء طول النهار، تقرباً إلى الله تعالى، فهو عبادة بالجسم وليس بالمال، ولذلك قال الفقهاء إنه عبادة بدنية. وعلى الرغم من أن الصوم عبادة دينية بدنية فإنه لا يفصل المسلم عن نفسه أو عن حياته كالرهبان الذين انقطعوا عن كل الدنيا وعاشوا فى زهد وتقشف فى رحاب الصلاة والذكر. إن الإسلام يريد من المسلم أن يعبدالله عز وجل دون أن يخرجه عن بشريته، فقد أخرج الطبرانى بسند فيه ضعيف عن سعيد بن العاص، أن عثمان بن مظعون قال: يا رسول الله ائذن لى فى الاختصاء (أى قطع سبب الإثارة الجنسية من الجسم). فقال صلى الله عليه وسلم: «يا عثمان إن الله قد أبدلنا بالرهبانية الحنفية السمحة».
لذلك؛ كان فى إمكان الصائم أن يدهن وأن يغتسل وأن ينظف أسنانه بالسواك أو بالفرشاة. وحيث إن الناس قد ابتلوا بالمطوعين بالفتوى المزايدة، وبعضهم يخرج بالفتاوى الآمرة بوجوب أن يبتعد الصائم عن مظاهر الترف زيادة فى التبتل، فقد رأينا فى أنابيشنا الفقهية أن نعالج مثل هذه المسائل فى نظر كل الفقهاء الذين تمكنَّا من معرفة أقوالهم حتى لا نمكن الأوصياء المطوعين بالفتوى من هز ثقة الناس فى قلوبهم ونفوسهم المؤمنة.
الحكم الأول: الإدهان بالمراهم والزيوت ونحوها.
اختلف الفقهاء فى أثر الإدهان بالمراهم والزيوت وأمثالها على الصوم على مذهبين.
المذهب الأول: يرى صحة الصوم دون كراهة لمن دهن شاربه أو رأسه أو بطنه بالمراهم والزيوت وأمثالها، حتى ولو نفذت تلك المراهم إلى داخل الجسم عن طريق مسام الجلد. وهو مذهب الجمهور قال به الحنفية والشافعية والحنابلة وبعض المالكية وهو مذهب الظاهرية. وحجتهم أن هذا الإدهان من الارتفاق بالجسم، وليس من محظورات الصوم؛ لأنه لم يدخل من فتحة طبيعية، وقد أخرج البخارى عن سلمان أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فاعط كل ذى حق حقه». وأخرج مسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبى صلى الله عليه وسلم قال له: «إن لزوجك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً -أى زائرك أو ضيفك- ولجسدك عليك حقاً».
المذهب الثانى: يرى أن الصائم إذا دهن رأسه فى النهار بحنظل أو نحوه فوجد طعمه فى حلقه فقد أفطر. أما إذا لم يجد طعم الدهن فى حلقه فصومه صحيح. وهو قول أكثر المالكية. وحجتهم أنه إذا وجد طعم الدهن فى حلقه فهذا دليل على دخول الدهن جوف الصائم، وهذا يفطره.
وكل مكلف حتى ولو كان من عوام الناس مسئول عن اختياره الفقهى، وله الحق فى تقويم كل الآراء الفقهية على قدر عقله؛ إذ لا يوجد تأويل مقدس فى ذاته إلا أن يراه المكلف كذلك.
الحكم الثانى: البخور والعطور.
نص الفقهاء فى المذاهب الأربعة على أن تعمد شم دخان البخور وإدخاله إلى حلقه قصداً. قالوا: ومنه الدخان الذى يشرب عن طريق الشفط أو المص بالقصب ونحوه -ويسمى الآن الشيشة- أو عن طريق اللفائف وهو التُّنْبَاك المعروف بالتبغ أو السجائر فإنه يفطر لو كان صائماً.
أما إذا تطاير على الصائم دخان البخور أو الشيشة أو السجائر فى الهواء، أو اشتم رائحة الورد والمسك ونحوهما فلا خلاف بين الفقهاء على صحة صومه وعدم فساده. ويعلل الإمام الشرنبلالى الحنفى الفرق بين فساد الصوم بشرب الدخان أو التبغ قصداً، وبين صحة الصوم بشم رائحة الدخان فى الهواء أو شم رائحة الورد وسائر العطور، بأن الدخان جوهر يُشاهد فى باطن العود الذى يمص منه، ويصل إلى الجوف فيؤثر فى صاحبه. أما روائح العطور فإنها تُطِّيب الهواء، وليست جوهراً يمكن الإمساك به.
ومع اتفاق الفقهاء على أن روائح العطور لا تفسد صوم الصائم إلا أنهم اختلفوا فى كراهتها.
1- فذهب الجمهور إلى عدم كراهة استعمال العطور للصائم؛ لعموم قوله تعالى: «يَا بَنِى آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ» (الأعراف: 31)، مع قوله تعالى: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ» (الأعراف: 32).
2- وذهب الشافعية والحنابلة إلى كراهة العطور للصائم:
أ- أما الشافعية فعللوا بأن العطور للصائم تستر رائحة فمه الزكية، فكانت مكروهة مثل السواك عندهم اعتباراً من النصف الثانى من النهار، وقد أخرج البخارى ومسلم عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك».
ب- وأما الحنابلة فعللوا الكراهة بسد الذرائع؛ لأنه يخشى ممن يستعمل الطيب أن تجذبه نفسه إلى حلقه.
ولكل مكلف بعد هذا البيان أن يختار القول الذى يطمئن إليه قلبه دون الخوف من قول لصالح آخر، فكل الأقوال الفقهية جاءت لخدمة قلوب الناس، فأى الأقوال صحّ عند قلبك فهو دينك، وهذا ما قاله الإمام الشافعى لتلميذه المزنى، قال له: «يا أبا إبراهيم لا تقلدنى فى كل ما أقول، وانظر فى ذلك لنفسك فإنه دين». (نقله الدهلوى فى الإنصاف عن الحاكم والبيهقى).
الحكم الثالث: الاغتسال.
أجمع الفقهاء على أن الاغتسال لا يفسد الصوم، سواء أكان بسبب شرعى كرفع الجنابة وغسل الجمعة، أم كان لسبب حياتى كالترطيب من الحر. ويدل لذلك ما أخرجه البخارى ومسلم عن عائشة قالت: أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان ليصبح جنباً من جماع غير احتلام، ثم يصوم. وبالطبع كان يغتسل بعد الفجر للصلاة.
وهل يجوز للصائم الغوص فى الماء؟ الجمهور قالوا هذا جائز. وذهب الحسن البصرى والشعبى إلى كراهة انغماس الصائم فى الماء خشية دخول الماء فى مسامعه ومنها إلى دماغه. وإذا دخل الماء فى الأذن إلى الجوف فالجمهور على فساد الصوم وذهب الظاهرية والمرغينانى من الحنفية ت 593 هـ وبعض الشافعية فى وجه إلى أنه لا يفطر؛ لدخوله من مخرج غير معتاد، وعدم وصوله إلى المعدة.
الحكم الرابع: السواك للصائم.
أجمع الفقهاء على أن السواك لا يفسد صوم الصائم؛ لأن الفم من خارج الجسم وليس جوفاً. ولكن هل يشترط أن يكون جافاً أم يجوز أن يكون مبللاً؟
(1) الجمهور: يرى أنه لا فرق فى السواك للصائم بين أن يكون جافاً أو أن يكون مبلّلاً؛ لأنه لو تفتت منه شىء أمكنه أن يلقيه. ولن يكون بلله كبلل المضمضة، وهى جائزة. ولك أن تقيس معجون الأسنان على السواك المبلل الذى يتفتت.
(2) وذهب المالكية وأبويوسف من الحنفية ورواية لأحمد إلى كراهة استياك الصائم بالمبلل؛ خشية وصول فتاته إلى الحلق.
وهل الأفضل للصائم أن يستاك أو يترك السواك؟
(1) الحنفية والمالكية يرون استحباب السواك للصائم؛ لما أخرجه ابن ماجه والدارقطنى والبيهقى بسند فيه مقال أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «من خير خصال الصائم السواك». وأخرج الترمذى بسند ضعيف عن عامر بن ربيعة قال: رأيت النبى -صلى الله عليه وسلم- ما لا أحصى يتسوك وهو صائم».
(2) الشافعية والحنابلة يرون كراهة السواك للصائم بعد الزوال، أى من النصف الثانى من النهار؛ للمحافظة على رائحة فم الصائم التى تظهر قوية بعد الزوال.
ولكل مكلف أن يأخذ بأى الأقوال شاء حسب ارتياح قلبه وليس بحسب افتئات أحد عليه.
وإلى لقاء جديد غداً بإذن الله تعالى مع أنبوشة فقهية جديدة.