يشيع بين العامة إرجاع عزم دول الغرب الاستعمارى على إقامة دولة لليهود فى فلسطين إلى إعلان بلفور وزير خارجية إنجلترا، القوة الاستعمارية الأكبر حينئذ، فى 1917 وبوازع من التعاطف مع معاناة اليهود فى أوروبا أو الاسترضاء لخدماتهم للمشروع الاستعمارى، ولكن المسألة أكثر تعقيداً وذات انعكاس مباشر على مصر.
والواقع أن القرار أقدم والأسباب تتصل بمصر وبدورها فى إقليمها.
باختصار تعود بدايات إعلان الغرب الاستعمارى إقامة إسرائيل إلى عام 1840، وهو توقيت له دلالة تاريخية مهمة فى سياق مصر محمد على باشا، كما سأبيّن فيما يلى، وكان الغرض الأساسى من زرع هذا الكيان الغريب فى قلب الأمة العربية هو تقزيم دور مصر النهضة، فى محيطها وإجهاض فرص النهضة من خلال الوحدة فى المنطقة العربية، وسأفصل قليلاً فى هذا الزعم فيما يلى.
إن من يدعون -عن غرض أو غفلة- الآن إلى التخلى عن المقاومة الفلسطينية أو الشعب الفلسطينى الشقيق، ولو من منظور شوفينية مصرى عمياء تاريخياً، إنما يدعمون المخطط الاستعمارى القديم - الجديد نفسه، ويقللون من فرص نهوض مصر، لقامتها التاريخية المستحقة والمؤهلة لها حال قيام مشروع متين للنهضة الإنسانية فى أرض الكنانة.
وللوضوح القاطع، أنا لست ضد موقف معادٍ أو حتى عقابى لأى من المنتسبين إلى منظمة حماس يثبت انغماسه فى أعمال معادية لأمن مصر بشرطين. الأول أن يعاقب أيضاً من ساعدهم -إن بالتواطؤ أو التقصير- من المصريين. ويمتد التقصير فى نظرى إلى المسئولين عن الأمن الوطنى المصرى فى أجهزة الأمن المدنية والعسكرية، بمن فى ذلك الرئيس الحاكم الذى ظل مسئولاً عن المخابرات الحربية منذ ما قبل اندلاع الثورة الشعبية، وحتى استقالته من منصب وزير الدفاع.
والشرط الثانى هو أن تثبت الاتهامات بتحقيقات نزيهة وأحكام قضائية فى محاكمات تتوافر لها ضمانات العدالة والإنصاف.
بل إننى طالبت علناً بهذه المسألة فى مقال نُشر بصحيفة «الوطن» فى 23 أبريل 2013، فى أوج سيطرة اليمين المتأسلم على مقاليد الحكم فى مصر بعنوان: رسالة مفتوحة إلى القوات المسلحة لشعب مصر، لا تسامح فى الخيانة، مطالباً أن ترعى القوات المسلحة تحقيقات نزيهة وعاجلة فى مجمل الاتهامات التى تحيط بها شبهة الخيانة بين صفوف اليمين المتأسلم وتعلن نتائجها على الملأ فى أقرب فرصة. ويحسن أن يكون ذلك من خلال لجنة تحقيق خاصة يرأسها قاضى القضاة (رئيس محكمة النقض) وتضم عدداً من كبار القضاة المشهود لهم بالحيدة والنزاهة وتتاح لها جميع وثائق أجهزة الأمن المدنية والعسكرية. وأن تحيل من يثبت عليهم اتهام بجرائم تلحق بها شبهة الخيانة إلى المحاكمة العاجلة والناجزة أمام قاضيهم الطبيعى، مترفعة عن إحالة مدنيين إلى القضاء العسكرى. وأن تدك مكامن أى ضالين من داخل مصر أو خارجها شاركوا فى هذه الجرائم أياً من كانوا، من دون الإخلال بالتزام مصر الاستراتيجى بنصرة القضية الفلسطينية ومكافحة المشروع الصهيونى.
السياق التاريخى
تخللت التاريخ التعس للمنطقة العربية محاولتان للنهضة، تمركزتا حول مصر ولكن كان لهما أفق عربى أوسع، وأُجهِضتا فى النهاية، أساساً على أيدى قوى الهيمنة الخارجية، ولكن لعيوب ذاتية أيضاً، بعضها مشترك.
قاد الأولى، محمد على باشا (1767 - 1849)، والى مصر الذى تمرد على سلطانه، الخليفة العثمانى، وسعى لأن يبنى إمبراطورية عصرية. وتزعم المحاولة الثانية، بقبول شعبى عارم «من المحيط إلى الخليج»، جمال عبدالناصر (1919 - 1970) بطل القومية العربية المتفرد فى العصر الحديث. وقد قاومت قوى الهيمنة العالمية المحاولتين بقوة، إلى حد شنّ الحروب.
بدأ محمد على برنامجاً ضخماً للتحديث، على النسق الأوروبى، فى مصر، تمركز حول بناء جيش قوى، قاده ابنه إبراهيم باشا، العسكرى البارع، وتوسع شرقاً وجنوباً وشمالاً. بعد غزو الحجاز ونجد (1818)، غزت جيوش محمد على السودان (1820)، والشام (1833). وأوشكت أن تستولى على عاصمة الخلافة العثمانية، الأستانة، مرتين (1833 و1839). ولم يُنقذ السلطنة العثمانية إلا تدخل روسيا وبريطانيا وفرنسا للحد من إمبراطورية محمد على البازغة. فدُمِّر أسطول محمد على فى موقعة «نافارين»، وأجبر لاحقاً، فى مؤتمر لندن (1840)، على الانسحاب إلى مصر على أن تصبح مُلكاً له ولنسله من بعده. لاحظ تاريخ رسالة «بالمرستون» التى سيأتى ذكرها أدناه.
وثيقة بريطانية
منذ منتصف القرن التاسع عشر، أعلنت القوة الاستعمارية الكبرى وقتها، بريطانيا عن رغبتها فى زرع دولة يهودية فى وسط الأمة العربية تعويقاً لتوحدها ونهوضها. ففى عام 1840 أرسل وزير خارجية بريطانيا «بالمرستون» إلى سفيره فى «إسطنبول» الفيسكونت «بونسونبى»، مؤكداً سياسة بريطانيا فى تشجيع استيطان اليهود فى فلسطين، حيث إن إقامة كيان قومى لهم فيها، ستؤدى إلى وقف أى محاولات شريرة فى المستقبل من قبل محمد على، أو أى من خلفائه «لإقامة كيان موحد بين مصر وسوريا الطبيعية».
(الوثيقة: FO 78/390، NO. 134، ON 11 AUGUST 1840.).