(1)
فى بداية جلسات التحضير لبرنامج «لحظة سكون» وصلنا مع الداعية الإسلامى الشهير الحبيب على الجفرى إلى بعض النقاط التى اتفقنا على أن تكون خطوطاً إرشادية لتعاملنا مع الملحدين وقضية الإلحاد
- الملحد ليس مريضاً، فلا تتعامل معه على أنه مريض يحتاج للشفاء.
- الملحد ليس مذنباً دائماً، فحسابه على الله، ولا ينبغى أن تعامله كمتهم.
- الملحد ليس وباء تبتعد عنه بمجرد أن تلقاه، وتتحاشى النظر فى وجهه.
- الملحدون فى الغالب ناس يبحثون عن الحقيقة، فيهم من لم يقتنعوا بها حين عرفوها فأنكروها، وفيهم من لا يزالون يبحثون عنها، وفيهم من عرفوها لكن أعجبتهم الحدوتة وكونهم مختلفين فكابروا وعاندوا، وفيهم من يتاجرون بإلحادهم كما فى الدين من يتاجر بالدين، وفيهم، على رأى مولانا د. على جمعة، مفتى الجمهورية الأسبق، عضو لجنة كبار العلماء بالأزهر الشريف، ناس (واخدين على خاطرهم) من ربنا أو (زعلانين) منه.
البرنامج لم يكن (سبوبة) نحاول من خلالها (الإثارة) بأسلوب رخيص لمجرد تحقيق (مشاهدة) أو سعياً وراء عبارة (أول برنامج يناقش الإلحاد فى العالم العربى)، لكنه نواة لمشروع كبير كنا نحلم به جميعاً مع مقدمه (خيرى رمضان)، الذى يصحب الحبيب على الجفرى منذ أربع سنوات فى رحلة بعنوان (آمنت بالله)، وكانت لدينا عدة أسئلة فى جلسات التحضير.
فأولاً: من سيشاهد البرنامج (الجمهور المستهدف)؟؟ ومن المؤكد أن شريحة كبيرة مستهدفة من الملحدين والمتشككين وأصحاب الأسئلة الذين لم يجدوا لها إجابات مقنعة، أو الذين نفروا من طريقة الإجابة وأصحاب الإجابة.
وثانياً: هل سيكون مناسباً أن نخاطب (ملحداً) فى برنامج عنوانه (آمنت بالله)؟؟، ومن هنا كان القرار بأن يتغير اسم البرنامج ليصبح (لحظة سكون)، لحظة نبحث فيها عن حوار، ونستطيع أن نفكر فيها بهدوء لنصل إلى إجابة، أو على الأقل حالة حوار محترمة، على أن تكون هذه اللحظة ضمن خط عام للبرنامج منذ عامه الأول هو (آمنت بالله).
وثالثاً: كيف سنصل للملحدين؟؟، وهنا جاء دور زميلنا حفنى وافى، مدير تحرير البرنامج. حفنى معد متميز يحلم بإنجاز فيلم وثائقى عن الإلحاد فى مصر، ولأنه مخلص لعمله، فقد عرف عدداً من الملحدين قبل سنوات، وتوطدت علاقته بهم فصاروا بالنسبة له بمثابة الأصدقاء، وصار لهم كذلك، وحين تحدث معهم فى فكرة البرنامج رحبوا بها بحذر لسابق خبراتهم الصعبة مع الإعلام، حيث طردت إحدى المذيعات ملحدة فى حلقة لها وقدمت ذلك على أنه نصر عظيم، وطردت أخرى ملحداً آخر فى برنامج آخر، ووصل الأمر بأحد الدعاة فى مواجهته لملحد بأحد البرامج لأن يعيره بعمله، وأن يقدم بلاغاً ضده على الهواء للنائب العام، وكلها تصرفات لم ترضنا جميعاً، ولا نتفق معها أبداً.
ورابعاً: هل يمكن أن نستضيف الملحدين فى البرنامج؟؟ بالطبع يمكن، لكن هل تكفى 20 دقيقة مدة إذاعة الحلقة لإدارة حوار حقيقى يمكن أن ننتهى منه بشىء؟؟ بالتأكيد لا، وهنا جاء الاقتراح بأن تبدأ الحلقات بتقرير عن أحد الملحدين، وكيف يفكر، وماذا يأخذ عن الدين من شبهات، على أن يكون دور الحبيب على الرد والنقاش حول هذه الأفكار، ويكون البرنامج برمته مجرد نواة لمشروع كبير يبدأ بعده حوار حقيقى فى حلقات ذات مساحة زمنية أكبر يمكن فيها الاستضافة.
وخامساً: كيف سيتقبل المجتمع ظهورهم؟؟ وكانت الإجابة: أن المجتمع يجب أن يتقبل ظهورهم، ويرى (نموذجاً) للحوار معهم و(تفنيد) ما يقولونه أو الرد عليه بهدوء بعيداً عن دعوات قتلهم أو ضربهم، كما أننى لن أستضيف من (يهين) المقدس عند المجتمع، أو يستفزه أو يغضبه أو يتجاوز ليسب الدين أو (يحقر) من شأنه.
أثناء الإعداد للتصوير فى أحد مقاهى وسط البلد أقسم أحد أصحاب المقاهى غاضباً وبأغلظ الأيمان أنه لن يسمح بالتصوير مع ملحدين على مقهاه، لأن أحدهم قبل يومين مزق مصحفاً أمام الجميع، فضربه الجميع وكادوا يفتكون به، كما أننى أذكر أن أحد الروائيين الذين يعيشون فى الخارج جاء إلى مصر إبان الثورة، وارتدى تى شيرت مكتوباً عليه عبارات سب للذات الإلهية، ثم قرر أن ينزل ميدان التحرير مصطحباً كاميرا لتصويره، وكادوا أن يفتكوا به أيضاً لأنه (لم يلحد فى هدوء)، بل اختار أن يتحدى المقدس عند فئات متنوعة من الناس، وتصوير نفسه فى النهاية على أنه لا يستطيع أن يمارس حريته، رغم أن أول دروس الحرية التى تعلمناها فى الابتدائى هى أن حريتك تقف عند باب التعدى على حريات الآخرين، وبالتالى تستطيع أن تكون ملحداً كما تشاء، لكن لا تهن دينى أو تتحدى شعائرى ومقدساتى للتحقير منها، لأن ذلك سيدفعنا حتماً للتصادم، وسيدفع البعض للمتاجرة بالأمر واعتباره كبتاً لحريته.
وسادساً: كيف نضمن أن الملحدين الذين سنستضيفهم ممثلين للملحدين فى مصر؟؟ بمعنى أنه من الممكن أن يخرج البعض بعد البرنامج ليقول: هؤلاء ملحدون ضعفاء، لا يستطيعون التعبير عن أفكار الإلحاد بكفاءة، وكانت الإجابة أن هؤلاء شريحة من الملحدين، وما يقولونه يتشابه لحد التطابق مع غيرهم من الملحدين ربما فى العالم كله.
(2)
أثناء جلسات التحضير للبرنامج شاهدنا العديد من الفيديوهات واللقاءات لعدد من الملحدين، وكانت هناك العديد من الملاحظات والوقائع بشأنهم، ومنها:
- أن كثيرين منهم ليسوا ملحدين بحق، وإنما هم متشككون، ويحملون أسئلة، صادف ألا يجيب عليهم فيها أحد أو يجيب عليهم شخص بأسلوب منفر، أو تكون إجابته غير مقنعة، لكن أسئلتهم يسهل الرد عليها.
- أن كثيراً من الملحدين يلحدون كـ«موضة»، حيث التحرر من السيطرة الدينية الأبوية السلطوية على أفعاله، وبالتالى هو يرى أن الإلحاد مرادف لكل ما يريد أن يفعله دون أن يحاسب عليه. ففى أحد الفيديوهات مثلاً قالت إحدى الملحدات إن البعض يلحدون لكى يشربوا الخمر أو يناموا مع بنات، وهذا ليس إلحاداً، وهى البنت التى قال عنها «الحبيب» على أنها صادقة مع نفسها، وملحدة يسهل نقاشها بعيداً عن أدعياء الإلحاد.
- أحد الملحدين شن هجوماً شديداً على البرنامج قبل أن يبدأ لأننا رفضنا إعطاءه مقابلاً لظهوره فى البرنامج، وقال إننا نتاجر به وهاجم الحبيب على بوصفه سيتقاضى الملايين وأحد تجار الدين، ولم يتغير مبدؤنا فى البرنامج، وهو أننا لن نعطى أحداً يقدم نفسه على أنه صاحب قضية مقابلاً لظهوره، فهذه متاجرة بالقضية، كما أن الحبيب على لم يتقاض أجراً لا هو ولا خيرى رمضان، مقدم البرنامج، كما أشاع الأخ الملحد، وهو ما اتفق معنا فيه أحد أهم الملحدين المصريين، وهو أحمد حرقان، والذى رفض فكرة أن يتقاضى أى فرد من المجموعة مقابلاً لظهوره لأن ذلك -من وجهة نظره- يسىء إلى الإلحاد.
- كان أكثر ما أرعبنا هو السؤال الذى طرح: ماذا لو تسببت إحدى الحلقات فى أذى نفسى أو جسدى لأحد ضيوفنا من الملحدين، وعليه كان يجب اتخاذ ضمانات لسلامتهم الشخصية، وحمايتهم سواء من خلال إخفاء ملامح أكثرهم (بناء على طلبهم عبر اتفاق مكتوب)، أو السعى للاطمئنان عليهم بين الحين والآخر من خلال مكالمات زميلنا حفنى وافى لهم للاطمئنان عليهم، وقد بذل زميلانا عبيدة أمير، وعبدالرحمن يحيى مجهوداً كبيراً فى (مونتاج) تقارير أصدقائنا الملحدين بشكل يحفظ سلامتهم، ولا يستبعد من كلامهم ما يريدون قوله، مع التخفيف من لهجة الصدام أو الإهانة للمقدسات، وبمجرد أن دارت عجلة التصوير كنا أمام مرحلة جديدة تعلمنا فيها أن نتعامل مع (أصدقائنا) الملحدين، بعيداً عن إهانتهم أو التحقير من شأنهم، وسعياً لحوار (محترم) و(راق) معهم، وأملاً فى مخاطبة (المتشككين)، و(أصحاب الأسئلة الحائرة) والذين نعتبر أن البرنامج يخاطبهم فى الأساس، وبدأ العمل يأخذ مرحلة الجد.
(3)
مع كل تقرير كنا نشاهده أو نسمعه كنا نتعاطف مع بعض الملحدين، ونضرب كفاً بكف على كلام ملحدين آخرين، ونضع يدنا على الجرح دون أن نستطيع إيقاف النزف.
أغلبهم شباب زى الورد، تصادموا مع الدين، وبدلاً من أن يجيبهم أحد ويخفف من حدة الصدام، دفعهم للنقيض، ليكرهوا الدين تماماً، ويعتبروا التشكيك فيه قضية عمرهم، مهما اقتنعوا برد الحكماء، والذين -للأسف- لم يقابلوهم كثيراً، وربما لم يقابلوهم أبداً.
هناك نوع من التعالى عند أكثر الدعاة والمشايخ وهم يتعاملون مع الملحدين، أو مع الأسئلة العادية التى يمكن أن يطرحها شخص يبحث فى دينه، كما أنه يجب أن نعترف بأن الردود على هذه الأسئلة تحتاج إلى (تأهيل) هؤلاء الدعاة الذين لا يمكن اختصارهم فى شيخ الجامع الذى ربما يكون أجهل من بعض الملحدين.
كما أن هناك نوعاً من (الاحتقار) عند بعض الدعاة والمشايخ، بل والقساوسة أيضاً، للملحدين على اعتبار أنهم يسيئون للدين ولله وللأنبياء، مما يستوجب (عقابهم) على حد زعم بعضهم.
أما المشكلة الأكبر، فهى أن جوهر الدين السمح لم يكن موجوداً عند الذين تعامل معهم هؤلاء الملحدون، فأى إسلام يرد عليهم فى إجابته؟؟ هل هو إسلام الإخوان، أم إسلام السلفيين، أم إسلام الجهاديين، أم إسلام داعش، أم إسلام الأزهر أم إسلام دعاة التليفزيون؟؟
كل من هؤلاء -للأسف الشديد- له إسلامه الذى يروجه، وهو ما جعل كثيراً من الملحدين يكفرون بالجميع، لأن لكلٍ أسلوبه، وأن لكلٍ أخطاءه وما يجعلهم ينفرون منه.
لا أنكر مع كل ذلك أننا تعاملنا مع ملحدين مكابرين، وغاضبين، ومتمردين، كما لا أنكر أننا تعاملنا مع ملحدين محترمين وأصحاب عقلية مرتبة ومنطقية، لكن ما كان يؤلم أكثرنا هو هؤلاء الملحدين الذين دفعهم رجال الدين إلى الإلحاد بأساليبهم معهم.
هناك بالمناسبة ملحدون دجالون، وتجار، وسليطو اللسان، ومدعو إلحاد يظنون أن الإلحاد مجرد هدم المقدس وشتيمته وتسفيهه، وهؤلاء لا يجدى معهم النقاش الهادئ لأن طبيعتهم هى الصدام، ومع مرور الوقت يشكلون حلقة منطقية من حلقات تدنى المجتمع الذى ذهب لأقصى درجات التطرف فى الموالاة أو المعاداة. يستوى فى ذلك السياسيون والملحدون ورجال الدين والبسطاء فى هذا المجتمع، نتيجة لواقع سياسى واجتماعى مرتبك ومهترئ، وتراجع شديد للمؤسسات الدينية ودورها، ونخبة نائمة مثل الفتنة، لعن الله من أيقظها، لأنها ستستيقظ لتقدم تنظيراً بعيداً عن الواقع وعن «الإنسان»، ثم ستعود لتواصل نومها العميق.
المشكلة كبيرة، ولعل دار الإفتاء المصرية بصدد إنشاء وحدة لمحاورة الملحدين، وهى خطوة جيدة للحوار، لكن يجب أن يتوازى معها مجهود ضخم على مستوى التعليم والعدالة الاجتماعية؛ فما أهمية محاورة ملحد من عالم جليل أو داعية مستنير وفى نفس الوقت يتعامل المجتمع بمنتهى الجهل مع هذا الملحد للدرجة التى تعرضه أحياناً للقتل؟!
وكيف توقف نزف الجرح والشرطة والداخلية تهدد بمطاردة الملحدين، وكأن الحل الأمنى هو المكتوب على هذا البلد حتى لو كان الأمر يتعلق بأفكار؟!
وكيف يأمن الملحد لمجتمع يتعامل معه على أنه «ملبوس»، ويحتاج لإخراج الجن منه بالضرب أو الحبس فى البيت أو الكنيسة (وهو ما دفع أحد الملحدين للانتحار بالمناسبة فى واقعة مؤلمة)؟
بل كيف يمكن استرداده وأنت تعتبره مريضاً نفسياً يجب علاجه (إحدى الملحدات حبستها أسرتها بعد استشارة طبيب نفسى شهير شخَّص حالتها بأنها مريضة نفسياً ووصف لها أدوية، وهى محبوسة إلى الآن ولا أحد يعلم عنها شيئاً)؟
كيف تحمى ابنك من الإلحاد وأنت تسفه من رأيه، وتعتبره «عيل صغير»؟ وكيف تتعامل معه إذا أخبرك بأفكاره وتشككاته وتساؤلاته، فى الوقت الذى تقدم بعض أسر الملحدين على محاولة قتل أبنائها حتى يتراجعوا عن تلك الأفكار؟!
الموضوع ليس بهذه البساطة حتماً، وهو ما لمسناه فى البرنامج، وفى المقابل ليست المشكلة فى المجتمع ورجال الدين أو أسلوب التعامل فقط، بل تكمن أحياناً فى الملحد نفسه.
(4)
لم يكن كل الملحدين الذين تعرفنا عليهم أو تابعنا أفكارهم من هؤلاء الذين يمكن أن تعتبرهم «ضحايا» المجتمع ورجال الدين وأسلوب التعامل، ولفظ «ضحية» نفسه ربما يزعج الملحد الذى لا يرى نفسه ضحية بقدر ما يعتبر نفسه «باحثاً عن الحقيقة». والسؤال هو:
هل سيكون الملحد شجاعاً ليعلن عن الحقيقة التى يصل إليها؟ وهل يكون على قدر هذه الحقيقة أم لا؟
يقول الحبيب على: والله لو أنى أعرف أو أقتنع أن الحق معهم لاتبعتهم! وعلى الجانب الآخر تعتقد قطاعات كبيرة من الملحدين أن الحقيقة هى أنه لا حقيقة، وأن اليقين الوحيد الذى وصلوا إليه أنه لا يقين!
الأمر إذن لدى كثيرين منهم «معضلة» فلسفية لا أكثر ولا أقل، وأحياناً سفسطة كلامية، وهو ما رأيناه فى نقاشات عديدة بين الملحدين وأحد الشباب المتميزين الذين وهبوا أنفسهم -فى الفترة الأخيرة- للحوار مع الملحدين بالعقل والمنطق ونفس أسلوب السفسطة الكلامية التى يتبعها كثيرون منهم. وربما لهذا يمثل «أحمد سامى»، مهندس الكمبيوتر الشاب، أحد المصادر التى اكتشفنا بعد عرض البرنامج أنها مهمة للمشاركة فى الحوار، وأضاف الحبيب على الجفرى على موقعه فيديوهات صنعها «أحمد» للرد على العديد من الشبهات، إضافة لفيديوهات أخرى عالمية لعلماء فيزيائيين. وكان من المفترض أن يشارك د. سعيد فودة، أحد علماء الأدلة العقلية والعلمية للأديان فى البرنامج، غير أن وقته لم يسعفه. كما شارك فى البرنامج د. أسامة الأزهرى، أحد أبرز مشايخ الأزهر بما يمثله من وسطية، ليناقش ويفند العديد من الشبهات بعضها متعلق بجانب المعجزات فى الإسلام، ود. على جمعة، عضو هيئة كبار العلماء، الذى شاهد موجات متعاقبة من الإلحاد عبر عشرات السنوات من عمره، ليدلى بدلوه فى الأمر، ويوضح ماذا فعل الأزهر عبر سنوات فى الأمر، ويرد على السؤال الشهير: لماذا يستمر الإلحاد بنفس الشبهات، ويستمر الرد دائماً بنفس الأسلوب وكأننا نشاهد فيلماً يعاد بأكثر من رؤية عبر عشرات السنين؟
أما الملحدون أنفسهم فقد كانت لدىَّ بشكل شخصى -وأحياناً مهنى- بعض الإشكاليات «الأخلاقية» مع كثيرين منهم، تعالَ أعرِّفْك على بعض النماذج وسلوكياتها:
- ملحد كان سلفياً، وإماماً للمسجد، وخطب الجمعة وهو ملحد مرة أو اثنتين (هذا إنسان غير أمين بغض النظر عن إلحاده من عدمه، لكننى لن أثق به حين يتعامل مع إلحاده ببعد أخلاقى ويحدثنى عن ازدواجية أصحاب الأديان، لأنه هو شخصياً أصابته هذه الازدواجية فى مقتل).
- معلمة تربية دينية ملحدة، ما زالت تقوم بتدريس الدين الإسلامى فى إحدى المدارس، فلا اعتذرت عن المادة ولا صارحت من حولها بأنها ملحدة، وبالتالى فهى إما تبث أفكارها لأطفال لا ذنب لهم فى تمرير هذه الأفكار الآن، أو على أقل تقدير (مع خطورته أيضاً) تغش نفسها وتضطر للنفاق لكى تبدو أمام الجميع مسلمة، بينما هى ملحدة.
- ملحد أحب فتاة ملحدة، وعمرها لم يكن يتعدى -حين عرفته- 17 عاماً، فالتقط صوراً بالموبايل معها وهو يقبلها فى شكل منافٍ للأعراف المجتمعية وجعلها صورة البروفايل الخاصة بحسابه على الفيس بوك. (بالقانون وبأعراف المجتمع التى تكون أقوى أحياناً من الدين نفسه هو يدمر حياة قاصر لا يعترف بها القانون كإنسانة كاملة الأهلية، ويعد زواجها أصلاً منه غير قانونى، فما بالك لو كان الأمر متعلقاً بأفكار إلحادية من جهة، ومشاعر وتجريس بمعنى الكلمة للبنت من جهة أخرى؟).
- ملحد دائم السب والشتم والبذاءة مع الجميع، ومشكك فيهم على اعتبار أن ما يملكه من أدلة أو ادعاءات يجب أن يقتنع بها الجميع أو يصبحون جهلة ومخدوعين.
- ملحد حدثت له مشاكل شخصية مع عائلته نتيجة تربية خاطئة، أو عدم احتواء، فعممها على الجميع، وأسقطها على الدين نتيجة عدم ركونه إلى الحقيقة، أو مصادر العلم والمعلومات المحترمة، أو لجهل أسرته بشكل واضح لدرجة أن والدته كانت ترفض أن يشاهد أفلام الكارتون فى طفولته لأنها حرام!
والهدف من طرح النماذج السابقة ليس الذهاب بالأمر إلى البعد الأخلاقى الذى يشترك الجميع فى التدنى فيه، أو المكابرة التى يمكن أن يتصف بها أشد الناس تديناً لدرجة تنفر الجميع منه لأنه «فظ غليظ القلب»، ما يدفع الناس لأن ينفضُّوا من حوله، وإنما إعطاء لمحة عن أبعاد عديدة للإلحاد، ففى الوقت الذى يمكن أن تشير فيه بإصبع الاتهام للملحد، فإن باقى الأصابع سترتد متهمة إياك، وكلنا متهمون ومخطئون فى الطرح والتناول والأسلوب والحوار بشكل أو بآخر، ولم يكن البرنامج سوى «محاولة» لإيجاد لحظة سكون.
كنا نعلم من قبل البرنامج أننا سنُهاجم من الجميع، لأننا ننحى منحى إصلاحياً، لكن الملحدين سيرون أننا ضدهم، وربما لن يقنعهم الطرح، ناهيك عن اتهامات أخرى توقعناها وضحكنا حين قرأناها على ألسنتهم، وسيرانا الجانب الآخر، سواء كان جانباً يمثل الدين أو المجتمع، مخطئين فى التناول، ومخطئين فى إعطائهم فرصة للظهور، أو طرح أفكارهم، لأنه من الوارد جداً أن يعجب بأفكارهم آخرون، فيزيد نزف الجرح بدلاً من إيقافه، وقد قرأنا ذلك بالفعل فى تعليقات الكثيرين وردود أفعالهم على البرنامج، لكن ما فعلناه هو أننا حاولنا أن نكون الحجر الذى يُلقى فى المياه الراكدة، لنا أجر المجتهد، وعلينا أخطاء أنفسنا بحسن نية أكيد حتى لو لم يره الآخرون كذلك.
(5)
أخيراً، هل تعلمت شيئاً من هذا البرنامج؟
تعلمت الكثير من «لحظة سكون»، حين جلست مع نفسى فى لحظة سكون.
- فمناهج الإلحاد فى مصر والعالم لها ألف رد، لكن المشكلة فى منهج من يرد وأسلوبه.
- والتعاطف الإنسانى لا ينفى الاختلاف، بوسعى أن أختلف معك ومع معتقدك، وأظل أحترمك وأبحث فيك عن الإنسان أو عن مساحة مشتركة نقف فيها أو عن «كلمة سواء» نتفق عليها.
- إذا أردت أن تكون ملحداً هذا حقك، لكن أستأذنك ألا تسىء لدينى ومعتقدى، وفى المقابل إذا أردت أن تحاور ملحداً فلا تسئ أنت شخصياً لدينك ومعتقدك أثناء حوارك.
- هناك من لا يحب الحوار، ولا طائل من الكلام معه أصلاً، لأن حكمه عليك نهائى وغير قابل للنقض، كما أنك غير مهتم أصلاً بحكمه.
- أخطر الأمور هى فكرة «تحدى» المعتقد الراسخ لدى الناس، والمقدس الدينى والمجتمعى، وهو ما يجب أن يدفعنا للمطالبة بأن يكون الملحد حراً بعيداً عن الصدام والاشتباك مع هذه المعتقدات على الملأ، وبعيداً عن إهانة الدين، لأننى سأغضب لإهانة دينى بعقل، بينما أخاف أن يغضب غيرى لإهانة دينه بجنون وحماقة تؤدى إلى كارثة حقيقية.
- الإلحاد عند كثيرين «موضة» فعلاً، لكنه تحول عند آخرين إلى رغبة شديدة فى الانتقام بعد ما حدث لهم من المجتمع ومن رجال الدين ومن تجارب شخصية مؤلمة تحتاج فعلاً لحوار، ليس مع الملحدين أنفسهم لكن مع المجتمع الذى لا يجيد التعامل مع المختلف معه.
- مشاكل الملحدين فى ازدواجية التفكير والحكم مثلاً تشبه نفس مشاكل المتدينين وأصحاب الديانات، المشكلة فى «السيستم» نفسه.
- الحوار ثم الحوار ثم الحوار مع من يريد الحوار؛ علمنى الحبيب على الجفرى ذلك دون كلل أو ملل، وقابل العديد من الملحدين وتناقش معهم، وتحمل أذى كثيرين منهم سبوه كثيراً، كما تحمل أحمد حرقان الملحد اتهامات زملائه الملحدين بأنه باع القضية، وأننا «ضحكنا عليه». صحيح أن هدف «أحمد» لم يكن خافياً علينا فى أسرة الإعداد نفسها، (وهو اكتساب أرضية مختلفة لطرح أفكار الملحدين بشكل يحدث صدمة فى المجتمع)، لكن الغريب أنه كان خافياً على كثيرين من زملائه الذين خوَّنوه، فأصبح مشتتاً بين مشاكله الشخصية (وهى كثيرة وناتجة عن الإلحاد)، وبين تخوين أقرب الناس إليه (ولو على سبيل الأفكار الإلحادية).
- أخيراً: أعدت القراءة والتدبر فى الآية الكريمة {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الْأَرْضِ}.