رحلة عمل سريعة إلى فرنسا، بعد اتصال من أكبر شركة للتصنيع الغذائى بمنطقة «النورماندى» متخصصة فى صناعة وتسويق كبد البط «Fois Gras»، وبالمناسبة قصة الفواجرا هى قصة مصرية، اكتشفها الفراعنة، ونقلها شامبليون إلى قريته FIGAC بجنوب غرب فرنسا، فرنسا تستهلك منها 21 ألف طن سنوياً، تنتج منها 10 آلاف، وتستورد 11 ألف طن من المجر - بولندا، إسرائيل.. ونحن أصحاب الحدوتة بناكل طرشى مخلل.
وصلنا مطار شارل ديجول.. ومن تحت المطار، كان القطار السريع TGV فى انتظارنا، ساعتان وصلنا إلى مدينة NANT، ومنها إلى قرية صغيرة لا يزيد عدد سكانها على 1800 فرد، وعلى أطرافها يعيش 2500 مهاجر، من كل الجنسيات..(مغاربة - وجزائريين، وسنغاليين).. كلهم يعملون فى تربية البط والأوز، وتزغيطه، وفى معامل التفريخ ومصانع «إنتاج الفواجرا»، باختصار كل القرى المجاورة أهلها مع المهاجرين يعملون فى هذه الصناعة.. وهذه هى فائدة توزيع الأنشطة والصناعات على كل الإقليم..
كل مجموعة قرى بمنطقة معينة تعمل فى نشاط أو أكثر.. فى «النورماندى» تجد صناعة عصائر التفاح نظراً لانتشار زراعته بالمنطقة.. مصانع لإنتاج الألبان والقشدة والزبدة والأجبان لانتشار مراعى البقر.. وهكذا بكل إقليم يستغلون ميزته النسبية، وعليها تنتشر الصناعات الغذائية المرتبطة بهذه الميزة.. ولجذب المستثمرين لهذه المناطق البعيدة عن العاصمة يمنحون المستثمر تسهيلات، وكل «عمدة» يسعى لجذب استثمارات لقريته أو مدينته.. وهكذا انتشرت الصناعات الصغيرة.. والتى أنشأ لها «جاك شيراك» عندما كان رئيساً، «وزارة للصناعات الصغيرة والمتوسطة».. وهذا هو المطلوب الآن عندنا فى مصر..
مطلوب «وزارة»+ مؤسسة للتمويل بدلاً من هذه البنوك التقليدية بشروطها التعجيزية فى إقراض الشباب وجذب المستثمرين.. أيضاً فى كل إقليم تجد هيئة لجذب السياح للفرجة على هذه الأنشطة التى تميز كل إقليم.. طوال الطريق نجد مكاتب استعلامات ترشدك وتعطيك خرائط مجانية ومعها بروشير ملىء بالمعلومات، وعناوين الفنادق وأسعارها، والمطاعم التى تقدم المأكولات والأطعمة التى تميز المنطقة.. وكل ما تتخيله من خدمات، حتى يدفعك دفعاً لزيارة الأماكن السياحية بكل منطقة.. ولهذا تربعوا على قمة السياحة العالمية بجذبهم 80 مليون سائح سنوياً فى بلد تعدادها 60 مليوناً (برج إيفل يزوره 25 مليوناً سنوياً).
فى صالون الفندق كان موعدنا مع صاحب الشركة ومعه المدير العام وأحد المغاربة الذى يتحدث العربية وهو مسئول التسويق فى الشرق الأوسط.. وبدأ الحوار على مائدة الطعام تمام السابعة مساء، لأنهم هناك يحترمون مواعيد الوجبات للحفاظ على رشاقتهم، وأغلبية الفرنسيين يتناولون العشاء بين السابعة والثامنة، ليناموا فى العاشرة، ويستيقظوا فى الخامسة فجراً، فتراهم كالنحل فى غاية النشاط واليقظة.. بلد بأكمله يسعى إلى الرزق، مؤمنين بأن «الله يوزع الأرزاق عند الفجر».
أخبار مصر إيه؟. قلت: أفضل بكثير مما رأيتموها فى زيارتكم لنا العام الماضى أيام الإخوان المسلمين، الآن بدأت الأمور فى الاستقرار، بعد أن أصبح لدينا رئيس اختاره 24 مليون مواطن (فى فرنسا الرئيس ينتخب بـ 51%، عدا مرة واحدة استثنائية عندما نجح اليمين المتطرف بزعامة «لوبن» فى الوصول إلى الدور الثانى، فهب الشعب ووقف مع شيراك فحصد 76%)
أخبار التشريعات والقوانين الحديدة إيه؟
قلت: بما أن الدستور الجديد تم إقراره فنحن بانتظار مجلس النواب لسن القوانين الجديدة طبقاً لهذا الدستور.
قاطعنى مدير الشركة باستغراب: لديكم 120 ألف تشريع وقانون وقرار وزارى، ونصفهم على الأقل يحتاج لتعديل. فكيف تنتظرون شهوراً حتى الانتخابات، وبعدها إذا أنجز المجلس 3 قوانين كل يوم، فأمامكم 30 سنة لتعدلوا وتغيروا كل هذه الغابة من التشريعات.. فمن سينتظركم كل هذه السنين؟ وأنت تعلم أن العائق الأول للاستثمار عندكم هو كل هذا العدد من القوانين العقيمة؟
تنحنحت وقلت: لا يا سيدى.. الرئيس الآن يصدر قرارات بقوانين لكل التشريعات التى تعوق حركة الاستثمار.. وأنا شخصياً من 6 أشهر، تناقشت مع المستشار القانونى على عوض مستشار عدلى منصور، وطلبت منه أن يكلف الرئيس نقابة المحامين أو كليات الحقوق أو مجموعة من الفقهاء القانونيين لإعداد مشروعات القوانين التى يجب تغييرها أو تعديلها طبقاً للمواد الدستورية الجديدة.. وأعتقد أن الرئيس مدرك جيداً لهذه الإشكالية.
مسيو جاك صاحب الشركة: أنت تعلم أن مصر بالنسبة لنا ولكل المستثمرين حول العالم هى سوق كبيرة وواعدة، والزيادة السكانية عندكم تضمن لأى استثمار أن يحقق أرباحاً هائلة.. ولكن كلنا متخوفون من المنظومة التشريعية الغبية، وأيضاً من الإجراءات البيروقراطية لدى الجهاز الحكومى الفاسد.. لديكم فساد كبير، يجعلنا نعجز عن حساب تكاليف المشروع، يعنى لا يمكنك إجراء دراسة جدوى حقيقية، وعلى كل حال: نحن نعرفك من زمن طويل، وتعاملنا معك، وقررنا أن نبدأ بالخطوة الأولى معتمدين عليك، وسنصل القاهرة بعد العيد.. وأرجوك أن تنبه الرئيس والحكومة بأهمية السرعة فى تعديل المنظومة التشريعية وإيجاد حل للجهاز الإدارى عندكم.. اتفقنا.. باى.. باى.
صباح الخير سيادة الرئيس:
هذا هو رأى أغلبية المستثمرين الأجانب، وبالمناسبة هو أيضاً رأى المستثمرين العرب ومعظم المصريين (غير الفاسدين والمفسدين).. التشريعات الفاسدة هى التى تمنع الاستثمار الجاد فى مصر، وهى سبب الفساد بالجهاز الإدارى الحكومى - والسبب فى أن تجد عشرات بل مئات حققوا مليارات فى عشر سنوات، والسبب فى عدم وصول التنمية والعدالة الاجتماعية للفقراء والمعدمين، والسبب فى قيام الثورات.