إن صدقنا الشعار الانتخابى للرئيس: «لا أملك إلا العمل ولا أطلب إلا العمل»، لكان لنا أن نتوقع أن يبدأ عهده بحملة متصاعدة ومثابرة تحض على العمل المخلص الجاد لرفعة الوطن، من الرئيس ومن الشعب معاً، ولكن بدلاً من ذلك فاجأنا مجلس الوزراء باعتبار يوم حلفه اليمين عطلة رسمية.
سياسياً، مجلس الوزراء الذى قرر اعتبار يوم تنصيب الرئيس الجديد عطلة رسمية أعاد مصر إلى عصر الملكية التى يُحتفل فيها بجلوس «ولى النعم» على عرش البلاد، وهو تقليد نتمنى ألا يدوم، وإن كان الرئيس يعنى شعاره فما كان يجب أن يسمح بهذه العطلة.
واقتصادياً، العطلة الرسمية ليست إلا خسارة مزدوجة، فالدولة وأصحاب الأعمال يدفعون أجر العاملين عن اليوم، بينما يحرم الاقتصاد والبلد أجمع من ناتج العمل لهذا اليوم، ولذلك فإنه فى سياق الشكوى من الأزمة الاقتصادية والمالية المستفحلة يتبين أن إضافة عطلة جديدة قرار غير رشيد سياسياً واقتصادياً.
فى العطلات، خاصة الطويلة منها، يدهشنى كم الامتناع عن العمل فى مصر وكيف تكاد جميع معالم الحياة العادية تتوقف تماماً، وكأن العطلات كالنوم صنف من الموت الصغير، ولكن للمجتمع ككل، فالأعياد والمناسبات القومية يعنى الاحتفال بها فى الأساس أيام عطلة للامتناع عن العمل. وتكاد لا تنقضى عطلة إلا وتكون أخرى لاحقة لها بسرعة! إن هذا الكم من الامتناع عن العمل لا مثيل له فى أى بلد متقدم أعرف عنه.
أضف إلى ذلك أن مصر بلد فقير، بمعنى أنه قليل الناتج وضعيف الإنتاجية ويفتقر إلى الموارد المالية، بينما هو غنى بالبشر، ومن ثم فإن رأسماله الأهم هو قوة العمل. وفى مثل هذا البلد، على الناس مضاعفة الجهد والتفانى فى العمل لزيادة الناتج وتعظيم الإنتاجية. ولكن مصر تتفوق على جميع بلدان العالم فى عدد المناسبات الدينية والرسمية، وتعنى كلها إجازة أو امتناعاً عن العمل. ومنذ أعوام قررت حكومة فاشلة زيادة أيام عطلة نهاية الأسبوع إلى يومين وكأن مصر بلد غنى لم يعد يحتاج لعمل أبنائه ستة أيام فى الأسبوع. باختصار، التنظيم المجتمعى الراهن يهدر المورد الأبرز ومصدر القوة الاقتصادية الأهم فى بلد كمصر.
وبالمقارنة، فإن الصين التى نجحت منذ سنوات فى إزاحة اليابان من موقع الاقتصاد الثانى الأكبر فى العالم، ما زال أهلها يعملون ستة أيام فى الأسبوع ويبقون تحت طلب جهة العمل فى اليوم السابع إن احتاج العمل، ولو لخدمة المجتمعات المحلية الفقيرة. وقد أدهشنى عندما اتصلت بصديق صينى لأهنئه بيوم العيد الوطنى (1 أكتوبر) وأسأله ماذا فعل فى يوم العطلة، أن أخبرنى أنهم يعملون يوم العيد الوطنى! وفى بعض المناسبات الاحتفالية يحظى بعض الفئات وحدهم بعطلة جزئية فقط من العمل.
البلدان، مصر والصين، يفخران بحضارة عريقة تمتد آلاف السنين، ولكن الحضارة الصينية مغرقة فى الشعائر الاحتفالية. ولذلك فإن عدد المناسبات الاحتفالية سنوياً فى الصين يفوق عددها فى مصر، ولكن عدد وطول العطلات من العمل فى الصين أقل، فيزيد عدد أيام الإجازات الرسمية فى مصر سنوياً على 20 بينما هو فى الصين 11، وهى فى الأخيرة كما أشرت لا تعنى الانقطاع التام عن العمل للجميع. هذه المقارنة تبين أحد جوانب إجابة السؤال الملح دوماً: لماذا تنهض أمم بينما تبقى أخرى متخلفة؟
بالطبع هناك أسباب تاريخية ومجتمعية لكره العمل فى مصر؛ فى عصور سابقة كان العمل يرتبط بالسخرة والمشقة البالغة تحت ظروف مرهقة أو مميتة أحياناً بأمر من حاكم طاغية، كما فى حالة الأشغال العامة وحفر قناة السويس، أو العمل الشاق لدى إقطاعى همجى أو صاحب عمل استغلالى لا يحترم إنسانية العمال. ومن ثم كان من الطبيعى أن يرتبط العمل بالمعاناة ويكتسب الامتناع عن العمل قيمة إيجابية كإحدى طيبات الحياة المترفة، ولذلك تسربت إلى الثقافة الشعبية قيم سلبية تمجِّد الامتناع عن العمل والركون إلى الكسل، من قبيل «الكسل عسل».
وفى حقبة المد النهضوى التى تلت ثورة يوليو 1952 استجدت مناسبات احتفالية مرتبطة بإنجازات وطنية تحولت كلها إلى أيام تعطيل للعمل، وكان الأولى أن تُمجَّد هذه المناسبات بمزيد من العمل المكرس للنهوض والتقدم. وفى عهود حكام افتقدوا مقومات موضوعية للشعبية كان رأس الحكم يستجلب شعبية بمنح أيام تعطل عن العمل فى مناسبات احتفالية.
ولكن لا تتوقف أسباب تفشى مرض إهدار العمل فى مصر عند الإفراط فى الإجازات الرسمية، فهناك ظواهر وعادات اجتماعية تضر بالقدرة على العمل الكفء فى أيام العمل.
إن مصر لن تنهض إلا بإعادة غرس قيمة العمل والاجتهاد فى عقول المصريين وأفئدتهم حتى تنعكس فى سلوكهم اليومى. وهنا دور مهم للسلطة الحاكمة ابتداء وللتعليم بجميع مراحله ولجميع وسائل الإعلام، غير أن قيمة العمل لن تعلو بين المصريين إن ظل أقصر الطرق للتمتع بطيبات الحياة هو السرقة والغش أو الاستغلال أو الحظوة من أصحاب المال والسلطة.
فصل القول، دون مشروع للنهضة يقوم على منظومة للحكم الديمقراطى الصالح تضمن القضاء على جميع أشكال الفساد المالى والسياسى، ويؤسس لنظم تعليم ومنظومة إعلام تنتج نسقاً صالحاً للحوافز المجتمعية يعلى من مكارم الأخلاق، ويعلى على وجه الخصوص من قيمة العمل المخلص والإيثار والتفانى فى خدمة المصلحة العامة - سيبقى التهرب من العمل من شيم المصريين، وسيظل المجتمع المصرى متخلفاً وغير منتج، متوهماً أنه متنعم بكثرة الإجازات وتفشى سبل التهرب من العمل.