الفتن المجتمعية لا تحدث فى الوسط الإنسانى المتحضر الذى يحترم فيه كل إنسان غيره، ولو كان مخالفاً له فى العقيدة أو الفكر أو العلم أو الثقافة، لأن الدنيا تسع الجميع، كما أن الدين الحق عند صاحبه يلزمه بإلزام نفسه لنفسه، ويمنعه من العدوان على حريات الآخرين أو المساس بكرامتهم المصونة بقوله سبحانه: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ» (الإسراء: 70)، وما أخرجه ابن عدى فى «الكامل» بإسناد حسن، وعبدالله بن وهب برجال ثقات، عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «كل بنى آدم سيد، فالرجل سيد أهله والمرأة سيدة بيتها».
وتبتلى الأمم بين الحين والآخر بصنوف من أعداء الحضارة الإنسانية بعضهم ينطلق فى عدوانه على الآخرين بالغرور مثل «قارون» الذى نصحه قومه أن يحسن التصرف فى كنوزه كما أحسن الله إليه، وألا يبغى الفساد فى الأرض، فقال بكل غرور: «إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِى» (القصص: 78). وبعض آخر ينطلق فى اجتياحه على الآخرين من الطمع مثل «يأجوج ومأجوج» الناهبين بقوتهم على أرزاق الضعفاء الذين لا يكادون يفقهون قولاً حتى استغاثوا بذى القرنين قائلين: «إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِى الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا» (الكهف: 94). وبعض ثالث أسوأ ما يكون فى ظلمه على الآخرين؛ لأنه ينطلق من ضلالة احتكار الدين لنفسه واستعباد عباد الله وسوقهم إلى تبعيتهم بسيف الفاشية وليس بلغة الحكمة والموعظة الحسنة، بل وحرمانهم من حق تقرير مصيرهم الشخصى الذى جعله القرآن الكريم حقاً إنسانياً فى غير موضع ومنه قوله تعالى: «لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ» (البقرة: 256)، وقوله تعالى: «وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» (الكهف: 29). وهذا الحق مقرر لكل إنسان فى الدنيا من غير ملاحقة أو احتقار أو بذاءة، كما قال سبحانه: «وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ» (الأنعام: 108)، وقال جل شأنه: «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ» (سبأ: 24، 25).
وكان من هذا الابتلاء الأخير المستند إلى ضلالة احتكار الدين ما وقع فيه المصريون تحت تلبيس فرعون لهم بقوله: «مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِى» (القصص: 38)، ولم ينقذهم منه إلا المعجزة يوم أن كانت من سنن الله فى الأرض قبل إيقافها بناموس الأسباب الذى استقر بالرسالة الخاتمة فقال سبحانه: «فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ» (القصص: 40).
وفى تاريخ المسلمين إبان حكم الدولة العباسية ظهرت فتنة «خلق القرآن» يوم أن جهل «المأمون» على دين الله فأراد حمل المسلمين جميعاً على قناعته بالفكر الاعتزالى، الذى يرى القرآن الكريم مخلوقاً أنشأه الله تعالى بعد بعثة النبى محمد صلى الله عليه وسلم، كما أنشأ كل خلقه من عدم، وذلك بالمخالفة للفكر السنى الذى يرى القرآن الكريم قديماً قدم الله سبحانه لكونه موصوفاً بكلام الله، فلا يتصور الفصل بين ذات الله وبين صفاته تحقيقاً لمعنى الأحدية. وعندما مات «المأمون» سنة 218هـ تولى «المعتصم» فسار على نهج سلفه من استمرار محاكم التفتيش الدينى، دون أن يسلم منها كبار الأئمة، أمثال الإمام أحمد بن حنبل الذى ضرب بالسياط وعذب وسجن مدة عامين ونصف العام لمجرد رفضه فكرة «خلق القرآن»، واستمر هذا البلاء من بعد «المعتصم» فى عهد ابنه «الواثق» الذى ولى الأمر بعد موت أبيه وبعهد منه سنة 227هـ حتى قيض الله للأمة شيخاً مغموراً استدرج بحكمته «الواثق» فى آخر حياته ليثنيه عن ضلالته الدينية، فيما يرويه الذهبى فى «سير أعلام النبلاء» والسبكى فى «طبقات الشافعية»، وغيرهما. فقد حضر «الواثق» جلسة المحاكمة الدينية التى كان يديرها قاضى القضاة، المعتزلى العقيدة، الحنفى المذهب «أحمد بن أبى داود» (وفى بعض الألفاظ: دؤاب)، فأدخل عليه شيخ مقيد حسن الشيبة، فاستحيا «الواثق» منه، ورق له، فما زال يدنيه حتى قرب منه وجلس وهو مقيد، فقال: ناظر «أحمد بن أبى داود»، أى جادله فى قضية «خلق القرآن». فقال الشيخ: احفظ علىَّ وعليه. ثم قال: أخبرنى يا «أحمد» عن مقالتك هذه هى مقالة واجبة داخلة فى عقد الدين فلا يكون الدين كاملاً حتى تقال؟ قال: نعم. قال: فأخبرنى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله هل ستر شيئاً مما أُمر به؟ قال: لا. قال: فهل دعا إلى مقالتك هذه؟ فسكت. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين هذه واحدة. قال «الواثق»: نعم واحدة. ثم قال الشيخ: أخبرنى عن الله تعالى حين قال: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» (المائدة: 3). أكان الله هو الصادق فى إكمال ديننا أو أنت الصادق فى نقصانه حتى يقال بمقالتك؟ فسكت «أحمد». فقال الشيخ: اثنتان يا أمير المؤمنين. فقال «الواثق»: نعم اثنتان. فقال الشيخ: أخبرنى عن مقالتك هذه أعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم جهلها؟ فقال: علمها. قال: فهل دعا إليها؟ فسكت. فقال الشيخ: هذه ثالثة يا أمير المؤمنين. فقال «الواثق»: نعم ثالثة. ثم قال الشيخ: فاتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمسك عنها ولم يطالب أمته بها؟ قال: نعم. فقال الشيخ: واتسع ذلك لأبى بكر وعمر وعثمان وعلى؟ قال «أحمد»: نعم. فأعرض الشيخ عنه وقال: فهلًّا وسعك ما وسعهم، ثم قال: يا أمير المؤمنين إن لم يتسع لك من الإمساك عن هذه المقالة ما زعم هذا أنه اتسع للنبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلا وسع الله عليك. قال «الواثق»: نعم، كذا هو. اقطعوا قيد الشيخ، فلما قطعوه ضرب بيده فأخذه، فقال «الواثق»: لم أخذته؟ قال: لأنى نويت أن أوصى أن يُجعل معى فى كفنى لأخاصم هذا به عند الله، ثم بكى، فبكى «الواثق» ورجع عن مقالته وانتهت فتنة محاكمة الناس الدينية بخلق القرآن التى استمرت أربعة عشر عاماً، وهو يردد مقولة الشيخ: «فهلَّا وسعك ما وسعهم».
ولعل المنتسبين لاسم السلفية اليوم يريدون إعادة محاكم التفتيش الدينية وممارسة فاشيتها على أهل الفكر الاعتزالى، من باب الانتقام لما وقع على مخالفيهم فى الدولة العباسية منذ أكثر من ألف ومائة سنة، مستخدمين أصواتاً فى الأزهر أساءت إليه عندما تولت كبر قضية «عذاب القبر ونعيمه» فأشعلت فتنة الصراع الدينى من غير طائل، لمسألة لو تركت لأهل الاختصاص من أساتذة «علم العقيدة» وهم كثر لأحسنوا معالجتها وإدارة أزمتها بسلام؛ لاحتمالها وجهتى النظر فى الإثبات والنفى، واتساع الخلاف فيها مكفول فى مناهج الأزهر التعليمية حتى اليوم، وهو ما يستوجب عليه بصفته مؤسسة علمية أن يقف محايداً على مسافة واحدة من أقوال العلماء ومذاهبهم احتراماً لعقول الناس المختلفة دون الدخول فى معركة ليس هو طرفاً فيها، وليعلن حكمة الشيخ الذى وأد فتنة «خلق القرآن» بقوله: «هلَّا وسعك ما وسعهم».