قد يندهش القارئ لمعرفة أن أصل هذا المقال كتب منذ ثلاثين عاماً، تحديداً فى نوفمبر 1983. ولا غرابة، فالقضية المثارة شبه أزلية ما ظلت هناك سلطة لا ديمقراطية ومثقفون يكافحون من أجل الحرية والعدل والكرامة الإنسانية للجميع.
عن إحراق الكتب
فى مطلع القرن الخامس الهجرى أحرق أبوحيان التوحيدى كتبه، وكَتَب لصديق له، مفسراً ما فعل:
«إن العلم -حاطك الله- يراد للعمل، كما أن العمل يراد للنجاة، فإذا كان العمل قاصراً عن العلم، كان العلم كلاً (عبئاً ثقيلاً لا خير فيه) على العالِم، وأنا أعوذ بالله من علم عاد كلاً وأورث ذلاً، وصار فى رقبة صاحبه غلاً، وهذا ضرب من الاحتجاج المخلوط بالاعتذار. ثم اعلم -علّمك الله الخير- أن هذه الكتب حوت من أصناف العلم سرّه وعلانيته، فأما ما كان سراً فلم أجد له من يتحلى بحقيقته راغباً، وأما ما كان علانية فلم أصب من يحرص عليه طالباً، على أنى جمعت أكثرها للناس ولطلب المثالة منهم ولعقد الرياسة بينهم ولمد الجاه عندهم، فحُرمت ذلك كله.. وكرهت مع هذا وغيره أن تكون حجة علىّ لا لى».
لقد اجتهد «أبوحيان» على درب العلم طلباً لغاية استحال تحقيقها فى وقته، وبلغ به الإحباط، مع الشرف والإجادة، أن فضّل إعدام الصحائف الناقلة لهذا العلم. وقد نختلف فى تقويم موقف أبى حيان بين المثالية والتخاذل، إلا أنه يصعب أن ننفى عن هذا الموقف صفات القطع والزهد، وهذه من شيم العالم الحق. ولعل أبا حيان التوحيدى مثال نادر على عالم أحرق كتبه بنفسه، فإحراق الكتب معروف تاريخياً، ولكن اشتهرت به السلطات القائمة التى تخشى على سلطانها من الأثر المنوِّر للعلم.
كما أن «إحراق» الكتب قد تطور من الشكل المادى الفج، الذى تصطلى فيه الأوراق ناراً، والذى قد يكون مثيراً للانتباه والتساؤل، إلى حبس الكتب المعارضة عن التداول بأساليب تتراوح بين الترهيب والترغيب.
ويعنى هذا أن نوعاً من حبس السلطة القائمة للكتب المضادة يقتضى تعاوناً مباشراً من العالم، ويقوم على إنشاء علاقة تعاونية بينه وبين السلطة.
ويتم «إحراق» الكتب فى إطار هذه العلاقة التعاونية عبر آلية مزدوجة. إذ يعنى الإبقاء على العلاقة التعاونية عدم التطرق إلى أمور تتناقض جوهرياً مع التوجه الاجتماعى - السياسى للسلطة القائمة، وهذا نوع من الحبس الذاتى الذى يباشره العالم. ولا يترك هذا للعالم المتعاون إلا الحلول الجزئية والتجميلية، وكثيراً ما تكون هذه سراباً لا يمكن الوصول إليه، إذ تطلب التشكيلات الاجتماعية - الاقتصادية فى البلدان المتخلفة تغييراً هيكلياً، لا تجدى بدونه تغييرات فى الفروع، هى غير ممكنة فى حد ذاتها لحاجتها لتغيير هيكلى يحملها. لكن التركيز على الحلول الجزئية، المقبولة فى إطار العلاقة التعاونية، يصرف جهد العالم، وفكره، عن الحل الأشمل والأجدى، والذى يخرجه من حظيرة السلطة القائمة.
الخليفة المعتضد يُوجّه وزيره بأخذ مجموعة معارضة باللين والرحمة.
فى الليلة الرابعة والثلاثين من كتاب «الإمتاع والمؤانسة» لأبى حيان التوحيدى أحد عمالقة الفكر والأدب العربى القديم، والذى يضم مسامراته الأدبية مع الوزير ابن سعدان، يروى أبوحيان الواقعة التالية، أنقلها بحرفها تقريباً، للتأكيد على ما أوردت فى المقال السابق.
رُفع إلى الخليفة المعتضد أن طائفة من الناس يجتمعون بباب الطاق ويجلسون فى دكان شيخ تبان، ويخوضون فى الفضول والأراجيف وفنون من الأحاديث، وفيهم قوم سراة وتُناء (رؤساء) وأهل بيوتات سوى من يسترق السمع منهم من خاصة الناس وقد تفاقم فسادهم وإفسادهم، فلما عرف الخليفة ذلك ضاق ذرعاً وحرج صدراً، وامتلأ غيظاً، ودعا بعبيد الله بن سليمان، ورمى بالرفيعة (البلاغ) إليه، وقال: انظر فيها وتفهمها.
ففعل وشاهد من تربّد وجه المعتضد ما أزعج ساكن صدره وشرّد آلف صبره، وقال: لقد فهمت يا أمير المؤمنين. قال: فما الدواء؟ قال: تتقدم بأخذهم وصلب بعضهم وإحراق بعضهم وتغريق بعضهم، فإن العقوبة إذا اختلفت، كان الهول أشد، والهيبة أفشى، والزجر أنجع، والعامة أخوف.
فقال المعتضد، وكان أعقل من الوزير: إذا فعلت ذلك فقد بالغت فى العقوبة، وقمت على سوء السياسة. والله لقد برّدت لهيب غضبى بفورتك هذه، ونقلتنى إلى اللين بعد الغلظة وحططت على الرفق، من حيث أشرت بالخرق، وما علمت أنك تستجيز هذا فى دينك وهديك ومروءتك.. ولقد عصيت الله بهذا الرأى، ودللت على قسوة القلب وقلة الرحمة ويُبس البطينة ورقة الديانة. أما تعلم الرعية وديعة الله عند سلطانها؟ وأنه يسائله عنها كيف سستها؟ ولعلة لا يسألها عنه، وإن سألها فليؤكد الحجة عليه منها؛ ألا تدرى أن أحداً من الرعية لا يقول ما يقول إلا لظلم لحقه أو لحق جاره، وداهية نالته أو نالت صاحباً له؟
ولو قالت الرعية لسلطانها: لم لا نخوض فى حديثك، ولا نبحث عن غيب أمرك، ولم لا نسأل عن دينك ونحلتك وعادتك وسيرتك؟ ولم لا نقف على حقيقة حالك فى ليلك ونهارك، ومصالحنا متعلقة بك، وخيراتنا متوقعة من جهتك، ومسرتنا ملحوظة بتدبيرك، ومساءتنا مصروفة باهتمامك، وتظلمنا مرفوع بعزك، ورفاهيتنا حاصلة بحسن نظرك وجميل اعتقادك، وشائع رحمتك، وبليغ اجتهادك، ما كان جواب سلطانها وسائسها؟ أما كان عليه أن يعلم أن الرعية مصيبة فى دعواها التى بها استطالت، بلى والله، الحق معترف به وإن شغب الشاغب، وأعنت المعنت.
وتابع الخليفة: لا والله ما الرأى ما رأيت، ولا الصواب ما ذكرت. وجّه صاحبك وليكن ذا خبرة ورفق ومعروفاً بخير وصدق، حتى يعرف حال هذه الطائفة ويقف على شأن كل واحد منها فى معاشه، وقدر ما هو متقلب فيه ومنقلب إليه، فمن كان منهم يصلح للعمل فعلقّه به، ومن كان سيئ الحال فصله من بيت المال بما يعيد نضرة حاله، ويفيده طمأنينة باله، ومن لم يكن من هذا الرهط وهو غنى مكفى، وإنما يخرجه إلى دكان هذا التبان البطر والزهو، فادع به وانصحه ولاطفه، وقل له: إن لفظك مسموع، وكلامك مرفوع.
وفارق الوزير حضرة الخليفة، وعمل بما أمر به على الوجه اللطيف، فعادت الحال ترف بالسلامة العامة، والعافية التامة، فتقدم إلى الشيخ التبان برفع حال من يقعد عنده حتى يُواسى إن كان محتاجاً، ويصرّف إن كان متعطلاً، وينصح إن كان متعقلاً.
وفى النهاية، كان الحسن البصرى يقول فى مواعظه: المعتبَر كثير، والمعتبِر قليل!