أرجو ألا تتوهم طائفة بعينها من البشر خصوصيتها بهذا الخطاب الإسلامى الراقى، وإنما هو خطاب النبوة للإنسانية التى استخلفها الله تعالى فى الأرض لإعمارها، وابتعث منهم أنبياء ورسلاً ليهديهم إلى خالقهم إن أرادوا مع تحملهم تبعة قناعاتهم الدينية يوم الدين، ويؤكد عليهم التزامهم بالسعى لمعايشهم الدنيوية ضرورة وليس اختياراً. ولهم فى سبيل ذلك حق وضع اللوائح والقوانين المنظمة لممارسة حقوقهم وواجباتهم المشتركة وفقاً لمبادئ الأمانة والعدالة والرضائية التى أقام الإسلام عليها الحكم بصحة المعاملة؛ فقال سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» (النساء: 58)، وقال تعالى: «لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ» (النساء: 29). ولما كانت الحياة الدنيا حقاً للمسلمين وغيرهم على السواء، وهم شركاء فى وضع القوانين المنظمة لمعايشهم بالأمانة والعدل والتراضى كان خطاب النبوة الإسلامى متوجهاً إلى هذا الجمع الإنسانى بطوائفه ومذاهبه وقبائله وأعراقه المختلفة أن ينتهج فى قوانينه ولوائحه وأعرافه المجتمعية منهج التيسير والرفق وضبط النفس، وأن يبتعد عن الفاشية التى تتمثل فى التسلط والتشديد والاستبداد والعصبية ولو كانت باسم الدين، فأخرج البخارى عن أبى هريرة أن أعرابياً قام فبال فى المسجد فتناوله الناس وثاروا إليه ليقعوا به، فقال لهم النبى (صلى الله عليه وسلم): «دعوه وأهريقوا على بوله ذنوباً من ماء -أو سجلاً من ماء- فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين»، وأخرج مسلم عن عائشة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: «اللهم من ولى من أمر أمتى شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولى من أمر أمتى شيئاً فرفق بهم فارفق به». والمعروف أن أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) هى كل البشرية من عصره إلى قيام الساعة يستوى فى ذلك المؤمن به وغير المؤمن به؛ لقوله تعالى: «قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً» (الأعراف: 158)، وقوله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ» (الأنبياء: 107).
وإذا كان الخطاب الإسلامى الصحيح قائماً على فكرة الشراكة مع الغير فى إدارة الدنيا دون الاستعلاء أو الاستبداد من أى أطراف المعاملة فما بالنا بالخطاب الإسلامى مع بنى الدين الواحد، فإنه إن لم يكن قائماً على المناظرة أو المشاركة فى تجاذب أطراف الحديث كأصول الخطاب مع الغير فإنه يزداد عنه رحمة وإحساناً من قوى الدين لأضعفه؛ لعموم قوله تعالى: «فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ» (المائدة: 54). ذلك أن المفترض فى دين التوحيد بالله أن يجعل صاحبه مستقلاً فى إرادته وعقيدته بخالقه عن قناعة شخصية دون التبعية لأدنى مخلوق، ولو كان واصفاً نفسه برجل الدين أو بالعالم أو بالفقيه؛ لأن الله تعالى نسب الدين له وجعل لكل إنسان فيه مثل ما لصاحبه من حق الاختيار والرضا والطمأنينة فى كل قضية من قضاياه. أما العالم أو الفقيه فدوره ينتهى بالبيان والتعليم لكل ما يعرف فى المسألة المطروحة دون اجتزاء العلم بذكر بعضه والإعراض عن بعضه الآخر ولو كان بقصد حمل الناس على اتباعه فيما يظن أنه الحق؛ لما فى هذا المنهج الاصطناعى من ميلاد طائفة أشباه المؤمنين وليسوا بمؤمنين عن تمحيص، كما قال سبحانه: «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ» (العنكبوت: 2)، وقال تعالى: «وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ» (آل عمران: 141). ومن هنا فقد ألزم الرسول (صلى الله عليه وسلم) العلماء بالبيان لكل ما علموه فى محل السؤال الدينى دون خشية التبعات، فأخرج الطبرانى عن عبدالله بن مسعود أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: «أيما رجل آتاه الله علماً فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار»، كما رفع الله تعالى عنهم تبعة التعليم إن أساء المتلقى الاختيار فقال سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ» (المائدة: 105). ويشترط القرآن الكريم على كل ممارس لوظيفة الدعوة إلى أحد العلوم الدينية أن يكون بالأليق إنسانياً فقال سبحانه: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» (النحل: 125).
وقد وضع الدستور المصرى الجديد، الصادر فى مطلع هذا العام، نقطة الانطلاق إلى خطاب إسلامى صحيح يحقق المقاصد الشرعية التى تحترم الحريات المنضبطة ببعضها وتحول دون تمكين الفاشيين من التسلط باسم الدين فنص فى مادته السابعة على أن «الأزهر الشريف هيئة إسلامية علمية». هكذا يكون دور الأزهر علمياً، والعلم رحم بين أهله، فلا يعرف الكهنوت أو المصادرة أو التعالى، بل يقوم على التعددية والاختلاف، فما يراه البعض حسناً قد يراه غيرهم سيئاً، والعكس صحيح؛ لأن ثمرة عقل البعض ليست أولى بالصواب من نتاج عقل البعض الآخر، فضلاً عن ظاهرة تغيير القناعات فما يراه أحدنا اليوم صواباً قد يراه فى الغد باطلاً. لذلك كانت مسئوليتنا الإسلامية ثم رسالة الأزهر الدستورية هى أمانة حفظ العلم بكل أوجهه ونقله بالتعليم وإنمائه بالبحث الذى لا ينتهى إلى قيام الساعة مع قبول فتح مسائله مجدداً دون الاختناق أو الضيق من ممارسة أهل كل جيل لحقهم فى إعادة الدراسة والمناقشة والمعارضة البناءة، ودون تخويفهم بتهمة العبث فى الأصول أو الثوابت؛ لأن الأصل إذا كان أصلاً بحق فهو محفوظ بحفظ الله ولن يهدمه قول قائل، كما أن الثابت إذا كان ثابتاً بحق فهو راسخ بفعل الله ولن يهزه تشكيك شاك.
إن المصريين لم يفزعوا من تطاول أحد طلاب العلم فى الأيام القليلة الماضية على الإمام البخارى وصحيحه الموصوف بالأصح من الكتب الدينية بعد كتاب الله تعالى؛ فقد اعتادوا تلقى مثل هذه الصدمات بين الحين والآخر حتى صاروا خبراء فى حسن التعامل معها مسترشدين بقوله تعالى: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ» (الأعراف: 199). إلا أن بعض المغرضين تولى كبر القضية مع قدمها لمحاولة يائسة فى دفع الحكومة إلى استصدار قانون يقيد من الحريات فى الآراء التى يتسع لها الدين ويتفهم علمه أوجهها، كما يستوعب فقهه أصحابها. ولكنها تضيق بأنفس الفاشيين الذين يتكاسلون عن أداء واجبهم العلمى من رد الحجة بالحجة ومن الصبر على الطلاب المشاغبين والأبناء العاقين، ويريدون حمل المخالفين لهم على قناعتهم بسيف القانون، وبتحويل القضية العلمية إلى قضية رأى عام لمصادرة الفكر دون تقويمه أو تحليله. إن الرأى العام المصرى يجب أن يتحول من الهجوم على الضعفاء الجهلاء الذين يحتاجون للتربية والتعليم إلى محاسبة العلماء وأصحاب السلطة المنوط بهم إثراء الساحة المصرية علماً وخلقاً وأدباً وإحساناً عن عدم وجودهم فى تخصصاتهم المختلفة لاستيعاب الخاطئين بالرفق واللين؛ فقد أخرج مسلم عن جرير بن عبدالله أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: «من يحرم الرفق يحرم الخير»، وعن عائشة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: «إن الله رفيق يحب الرفق ويعطى على الرفق ما لا يعطى على العنف وما لا يعطى على ما سواه». وحسبنا أن الله تعالى أمر موسى وأخاه هارون بلين الكلام مع من نازعه الألوهية فقال سبحانه: «فقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى» (طه: 44).