يبدو أن «الكسوف» وحده لا يكفى.. فرغم أن ما كتبته الأسبوع الماضى تحت عنوان «أنا مكسوف» حول «خيبة الإعلام التليفزيونى» لمس وتراً لدى القراء والمشاهدين والإعلاميين أنفسهم، فإن شيئاً لم يتغير.. وبدا الأمر وكأننا نتحدث ونتحاور حول بلد بعيد.. وإعلام آخر..!
كان مقال «أنا مكسوف» بمثابة حجر فى ماء راكد إلى حد العفونة.. أو هكذا اعتقدت.. إذ تلقيت ردود فعل محمومة من مصر كلها.. وتناولته برامج تليفزيونية ومواقع إلكترونية وصفحات كثيرة على شبكة التواصل الاجتماعى.. غير أن أكثر ما آثار تفاؤلى، ذاك السيل من الاتصالات التى تلقيتها من الإعلاميين وأصحاب المحطات الفضائية تأييداً لما ورد بالمقال.. كان أكثرهم يصرخون: «أخيراً.. فعلها واحد مننا.. وإحنا زهقنا.. لازم نطهر الإعلام التليفزيونى من الدخلاء والمرتزقة».. استمرت الحالة عدة أيام.. تحدث مَن تحدث على شاشات الـ«توك شو».. وكتب مَن كتب.. واتصل مَن اتصل.. ثم «السلامو عليكو».. لم يحدث شىء.. هل تعرفون لماذا؟!
فى الإعلام المصرى مرض خطير.. فيروس مزمن ينتقل لـ«الشخص» فور ظهوره على الشاشة.. ينشط «الفيروس» مع أول رسالة نصية أو مكالمة هاتفية بعد خروج «المذيع» من الهواء «الله.. الله عليك.. إيه الحلاوة دى.. أنا بموت فيك يا أستاذ.. أنا بتمسمر أمام برنامجك يا أستاذة.. أيوه كده إديهم على دماغهم».. تظهر أعراض المرض على المذيع أو المذيعة قبل أن يصل البيت: انتفاخ فى الأوداج.. تغيير حاد فى المشية.. وارتفاع مفاجئ فى «أرنبة الأنف»..!
لا تتوقف أعراض «الفيروس» لدى المذيع أو المذيعة عند هذه المرحلة.. فبعد عدة أيام من الظهور اليومى فى برنامج الـ«توك شو» تتغير نظرته للعالم.. فهو الآن «معلم» يلقى الدروس والنصائح والآراء على الملايين.. لذا يستهلك نصف ساعة.. فى بداية الحلقة لإلقاء آرائه وأفكاره «الخطيرة» على المشاهدين.!
بعد شهر أو شهرين، ومع تزايد عبارات الإشادة، يحدث تحور شديد لـ«الفيروس»، فيتضخم «المذيع» إلى درجة تستدعى تغيير «الديكور» وتوسيع «الترابيزة أو المكتب».. ثم تتحول لغة خطابه مع فريق العمل بالاستوديو إلى «أوامر» بالعين والحاجب.. وتتمدد النصف ساعة فى بداية الحلقة، فتصل إلى ساعة ثم ساعتين.. يستغرق «المذيع أو المذيعة» فى الكلام.. أى كلام.. وتكثر على لسانه كلمة «أنا».. فكل ما يقوله هو فى نظره «الحكمة والحق».. هو «لا يأتيه الباطل فى القول».. يسأله البعض: لماذا تتحدث وحدك نصف الحلقة أو يزيد؟.. فينظر إليهم شذراً «.. وهل سيقول الضيف شيئاً أكثر قيمة مما أقول؟!»..
يتمكن «الفيروس» من «عقل وجسد» المذيع.. فقبل مرور عدة أشهر من «ركوب الهواء» يُحدث تغييراً حاداً فى «كيمياء المخ».. بات «المذيع» زعيماً سياسياً ورمزاً وطنياً.. وتحولت «المذيعة» إلى «أم المصريين».. ما يفعله هو الصواب حتى لو وضع حذاءه فى وجه الجميع.. وما تقرره هو لمصلحتنا جميعاً، حتى لو «قفلت السكة فى وجه دولة بأكملها»، وما تنطق به لا نقاش فيه، حتى لو لعنت وسبت ومرمطت بكرامة شعب صديق الأرض..!
نسيت أن أقول لكم إن «الفيروس» لا ينشط إلا بـ«الفلوس».. «فلوس كتير قوى» يدفعها رجل أعمال أو تاجر.. أو «غسالة أموال».. هو يبحث عن مصلحة ما: إما حماية ممارساته.. أو ركوب الهواء ليطير عالياً فى حضن «السلطة».. أو بحثاً عن «عصا» يهدد بها الجميع و«جزرة» يسيل لها لعاب الكافة..!
تسألوننى الآن: لماذا أنت غاضب رغم ردود الفعل القوية على مقال «أنا مكسوف»..؟!.. الإجابة: وماذا فعل الكسوف؟!.. وتلك قصة أخرى.. سوف أستكملها حتماً..!