هناك مصطلحات وكلمات تكتسب سمعة سيئة إما من فرط جهلنا بها وإما من عدم احتكاكنا وتفاعلنا مع أصحابها، من ضمن هذه المصطلحات سيئة السمعة أقباط المهجر، دائماً ما نضعهم كلهم فى سلة واحدة ونتعامل معهم كشياطين، وهذا التعميم مرض مزمن فينا كمصريين. وتجربتى مع الجالية القبطية فى هولندا خير دليل على كذب هذا التعميم، فهم من أجمل البشر الذين قابلتهم فى حياتى وأكثرهم حباً لوطنهم. حاورت الأستاذ بهاء رمزى رئيس الجالية القبطية هناك وسألته عن صحة ما يقال عن اللجوء الدينى إلى هولندا ورأيه فى الفيلم المسىء، فقال لى بهاء:
«اندهشت من أن الكثيرين حتى من المثقفين والإعلاميين والسياسيين المرموقين لا يقرأون إلا عناوين الأخبار، ومن خلالها يكونون رأيهم وتحليلهم للأحداث، فحين نشرت الصحف خبر قرار الحكومة الهولندية بمنح أقباط مصر حق اللجوء، لم يكلف أحد نفسه أن يقرأ تفاصيل الخبر ليعرف ما المقصود بهذا العنوان المثير والمغلوط، مع أن تفاصيل الخبر توضح أن هذا لا ينطبق إلا على المسيحيين الذين تعرضوا للاضطهاد وهناك خشية على حياتهم إن لم يغادروا مصر.
ولم يكلف أحد نفسه أن يدرس هذا العنوان المستفز ليرى مدى صحته مع القوانين الهولندية والمواثيق الدولية التى وقعت عليها هولندا بعد الحرب العالمية الثانية، فهولندا وحسب معاهدة الأمم المتحدة الخاصة بوضع اللاجئين التى تم توقيعها فى 25 يوليو لسنة 1951 وحسب الإعلان العالمى لحقوق الإنسان والموقع فى 10 ديسمبر لسنة 1948، لا يحق لها رفض طلب تقديم اللجوء لأى إنسان كان شريطة أن يكون قد وصل إلى الأراضى الهولندية، ولكن يحق لها إن اتضح أن من تقدم بطلب اللجوء لا تنطبق عليه الشروط الموجودة فى معاهدة 1951، أن ترفض منحه حق الإقامة فى أراضيها.
أما عن القرار الذى صدر من الحكومة الهولندية فى 11 يوليو لسنة 2012، فهو تسهيل إجراءات اللجوء للمسيحيين المصريين، وليس فتح باب اللجوء الذى لم يغلق أصلا فى وجه أحد، وهذا التسهيل تم بناء على تقرير وزارة الخارجية الهولندية الصادر يوم 22 يونيو لسنة 2012، ويتضمن العديد من النقاط التى يعانى منها الأقباط فى مصر، وأوجه الاضطهاد التى يقابلونها. كما ذكر أن الحكومة المصرية تعتمد على جلسات الصلح العرفية فى تعاملها مع القضايا القبطية، ولا تقدم الحماية اللازمة للأقباط فى حالة وجود خلافات على أساس دينى بينهم وبين المسلمين، وعلى هذا الأساس تم إعفاء المسيحيين المصريين من طلب حماية الحكومة المصرية كشرط من شروط اللجوء إلى هولندا، وهو شرط ينطبق على الجميع ومن كافة الجنسيات. وفى هذا الإعفاء اعتراف ضمنى بأن المسيحيين المصريين يتعرضون للاضطهاد فى بلدهم وإن قالوا إن هذا الاضطهاد ليس منظما من قبل الحكومة.
إذن فهو ليس قرارا لكافة المسيحيين فى مصر، لأننا حين طالبنا البرلمان الهولندى بتسهيل الإجراءات للمضطهدين من المسيحيين فى مصر لم يكن فى خاطرنا إطلاقاً أن يكون الهدف هو تهجير المسيحيين من مصر، فهذه أرضنا ولن نتركها مهما حدث، ولكن هذا القرار سيفيد فقط من تعذر عليه العيش نهائيا فى مصر وفى وجوده فيها خطر حقيقى على حياته.
كنت أتمنى ممن أثارهم هذا القرار ومن نددوا به أن ينظروا إلى هذا القرار من جانب موضوعى آخر وهو لماذا صدر هذا القرار؟ فالأقباط فى مصر يتعرضون للكثير من الاضطهاد الحكومى وغير الحكومى.. ألم يسأل أحد نفسه عن كم القضايا والأحداث التى كان ضحيتها الأقباط ولم يحكم فيها على أحد؟ ولن أتكلم الآن عما قبل ثورة 25 يناير ولكن عن أحداث أطفيح وإمبابة وعين شمس ومنشية ناصر وماسبيرو والتهجير الذى حدث فى العامرية ودهشور، وهذه هى الأحداث الكبيرة فقط ولكن هناك غيرها الكثير من الأحداث الفردية أو الأقل حجماً، والمشترك فى كل هذه الأحداث جميعا أنه ورغم وجود أشرطة فيديو للجناة فى بعض الأحداث كأطفيح وإمبابة مثلا فلم يتم عقاب أحد على الإطلاق.
قبل أن نلوم دول العالم المتحضر التى تعرف معنى حقوق الإنسان بغض النظر عن دينه أو عقيدته أو عرقه، يجب أن نلوم كل مصرى رضى بظلم شريكه فى الوطن وكل مسئول ساعد على ذلك.. ويجب أن نلوم الظالم لا من يمد يد المساعدة للمظلوم.
والخبر الآخر الذى فتك بحياة أبرياء، والذى أساء إلى سمعة أكثر من مليونى قبطى مهاجر خارج مصر، هو خبر الفيلم المسىء لرسول الإسلام، الذى جاء تحت عنوان «أقباط المهجر ينتجون فيلما مسيئا للإسلام»، والذى قامت الدنيا عليه وتناثرت الاتهامات على الجميع لا يضبطها أحد ولا يفكر فيها أحد، بل كيلت الاتهامات لأقباط المهجر ولغيرهم دون تدقيق أو فحص.
ورغم أننا وغيرنا من الهيئات القبطية فى الخارج بالإضافة إلى الكنيسة فى مصر قد قمنا بإدانة هذا العمل غير المسئول والذى لن يفيد إلا التطرف والمتطرفين ولن يفيد إلا فى المزيد من الفرفة بين أبناء الوطن الواحد، وأعلنا أنه كما نرفض أن يهين أحد ديننا أو رموزه -رغم حدوث هذا كثيرا دون عقاب أو رادع من أحد- فإننا نرفض رفضا باتاً أن يتم الاعتداء على مقدسات الآخرين ورموزهم الدينية.وبعد كل هذه التصريحات والاستنكارات ما زال عنوان الخبر الذى يتهم أقباط المهجر بهذا العمل هو المسيطر على عقول الكثيرين، وما زالوا يكيلون الاتهامات وكأنهم يستلذون بذلك.
ولكننى كما أدين هذه الإهانات للأديان ورموزها أدين أيضاً العنف غير المبرر كرد فعل لهذا العمل، وأدين أن يموت العشرات ومعظمهم من المسلمين فى احتجاجات عنيفة ضد هذا الفيلم، فالعنف لن يؤدى إلا إلى مزيد من العنف، وأى رد يجب أن يكون بالطرق القانونية والاحتجاجات السلمية. وفى النهاية أدعو الله أن يوفق مصرنا وأبناءها لنبذ العنف والفرقة والخلاف والتطرف، ولفصل الدين عن الدولة الذى بدونه لن تنهض مصرنا الحبيبة لتلحق بركب الدول المتقدمة.