هل انتهينا من الحديث عن الأزهر؟ فليكن، ولكننى أريد أن أقول قبل أن أغلق هذا الباب إن هناك فارقاً بين الرجل وعلمه، وكذلك بين الرجل والمؤسسة التى يمثلها، ولكننا منذ قرون ونحن نخلط بين هذا وذاك، فوقر فى عقلنا الجمعى أن ناقل الحديث الشريف هو الحديث، فإذا انتقدنا الناقل «النسبى» نكون كمن انتقد النص الدينى «المطلق»! مع أن هذا غير ذاك، لذلك شق على بعضهم أن انتقد بعضهم البخارى ومسلم والإمام أحمد ومالك والدارقطنى والنسائى والترمذى فيما أثبتوه فى كتبهم من أحاديث لا يخلو بعضها من الشذوذ ومخالفة القرآن، مع أن هؤلاء العلماء هم بشر أمثالنا، لم يدّعِ أحدهم أنه «الإنسان الكامل» وأن طريقته فى إثبات صحة الحديث هى الكمال ذاته، وإذا كانت الأجيال التى عاصرت هؤلاء قد انتقدت علومهم، وكانت الأدوات التى استخدموها فى نقدهم هى نتاج عصرهم وبيئتهم وثقافتهم وخلفيتهم الحضارية، فضلاً عن علوم عصرهم وفهمهم للدين، أفلا يكون لنا الحق بعد أن بلغنا شأناً عظيماً فى الحضارة والثقافة وعلوم الاستدلال والاستنباط فى استكمال الدراسات النقدية لكتب الأولين؟ أوليس لنا الحق فى أن نختلف مع الناقل والناقد؟
ولكن يا ويلنا من: «هذا ما وجدنا عليه أجدادنا»، لقد اجتهدوا وأغلقوا أبواب الاجتهاد ولم يتركوا لنا ولو باباً واحداً ندلف منه إلى فهم متجدد للدين! بل إن الأمر تطور بنا وأصبح الرجل هو فكرته، اندمج هذا مع تلك، فوقعنا فى أغرب الأشياء، إذا كرهنا الرجل وأبغضناه كرهنا أفكاره، ورأينا السوء كله فى إبداعاته، وإذا رفضنا أفكار الرجل رفضناه هو شخصياً، كان الفيلسوف «نيتشه» ملحداً، فلنبغضه البُغض كله ولنقذف فلسفته كلها من أقرب نافذة، وكان الكندى وابن رشد وابن خلدون فلاسفة لا نظير لهم، ولكن أهل «النقل» والتقليد يكرهون علوم الفلسفة والكلام والمنطق والكيمياء، إذن فلنحرق كتب هؤلاء ولنتهمهم فى دينهم! وحين أحببنا الرسول، صلى الله عليه وسلم، أحببنا من نقل لنا أحاديثه الشريفة، وكرهنا أن تناقش الأجيال المتعاقبة مدى صحتها، فأصبحت مرتبة المجتهد الذى نقل الحديث فوق البشر، وأصبحت مرتبة المجتهد فى نقد صحة الحديث دون البشر!
ومع الأيام أصبحت هذه ثقافتنا الراسخة فى ضمائرنا، فمارسناها فى الدين والسياسة والاجتماع، لذلك أصبح الرئيس فى عقيدتنا هو مصر، ومن ينتقده هو عدو لمصر، وشيخ الأزهر هو الأزهر! والأزهر بتراثه هو الإسلام، وعالم الدين هو الدين، فاحذر من أن تقترب منه نقداً أو تعقيباً أو تعييباً، فلحوم العلماء مسمومة، والتراث كله «بعجره وبجره وأعلاه وأرقاه» دين، فإن اقتربت منه إلا متلقياً وناقلاً، فأنت فى بحر الظلمات، ثم إنه لا يجوز لك أنت أن تقترب من التراث أصلاً، فمن أنت أيها المسكين؟! إنما الذى يقترب ويشرح ويفسر هم طبقة أخرى ينتمون إلى مؤسسة علمية أطلقوا عليها «مؤسسة دينية» خذ منهم الدين يا ولدى وتناول منهم فهمه، فهم طريقك إلى الجنة! ولكى يكتمل إيمانك لا تقف كثيراً عند نقد هؤلاء للكنيسة وقولهم وهم يتفاخرون بالإسلام «إنها مؤسسة دينية تتوسط بين العبد وربه، ويظنون أنها طريقهم إلى الجنة» أرجوك غُض الطرف عن هذا لتريح وتستريح، ثم قل مثلهم: ليس فى الإسلام مؤسسة دينية، وبعد أن تفرغ من عبارتك هذه استدر لشيخ الأزهر، وقل: الأزهر الشريف هو أكبر مؤسسة دينية للإسلام!
والآن لى معكم حديث سأنطلق فيه إلى آفاق رحيبة، ولا أخالكم ستغضبون منى حين تقرأونه، وأقصى ما قد يحدث أن يقول بعضهم: هذا رجل «غاوى شهرة» أو أنه أراد أن يعود إلى الأضواء بعد أن هجرته، أو أن كل بضاعته كانت عن الإخوان، فلما كسدت بضاعته بحث عن غيرها، أو أنه دعى يهرف بما لا يعرف، وقد يشتط أحدهم فيقول: هذا علمانى ملحد يريد أن يفتنكم عن دينكم، وقد جاء لكم يحمل أحقاد المستشرقين، ولكى أريح هؤلاء وهؤلاء وضعت كلامهم جملة واحدة وهم أحرار فى اختيار ما يريدون من تجريح أو تشويه أو تقطيع، فهل فرغت من هؤلاء! إذن فلتقرأ أنت يا من ترغب فى مناقشة الأفكار بعد أن تحرر نفسك أولاً من أفهام الأولين، ثم لك بعد ذلك أن تقبل أو ترفض أو تُغيّر أو تعود لما درجت عليه، أنت حر، وما أنا إلا واحد من الناس، حيث شيمتنا جميعاً النقص والخطأ.
كان يوماً هادئاً الذى قلت فيه فى أحد البرامج إنه لا يوجد ما يُسمى بتفسير القرآن، وإنه لو كان هناك تفسير للقرآن لما صلح إلا لزمن واحد وبيئة واحدة، هل تختلف معى فى هذا؟ أنت تعرف أن الله لم يُنزل من عنده تفسيراً للقرآن، وتعرف كذلك أن القرآن كنص إلهى «مطلق» أما نحن فنسبيون، والعقل النسبى لا يستطيع أن يحيط بالنص المطلق إحاطة كاملة، ولكنه قد يستطيع فهم جانب من جوانبه اللانهائية، وهذا ما يُسمى بـ«تأويل القرآن» فإذا قام العالم «زيد» بتأويل القرآن على وجه ما فإن تأويله هذا يكون احتمالياً، ولذلك ليس هناك مانع من أن يقوم العالم «عبيد» بتأويل آيات القرآن على وجه احتمالى آخر، وهكذا، لذلك لا يوجد ما يُسمى بـ«تفسير القرآن»، ومع ذلك فإن المكتبة التى فى بيتك فيها تفاسير «ابن كثير والقرطبى والطبرى والسيوطى» وغيرهم، فهل هذا متناقض مع ما انتهينا إليه؟! لا أبداً ولا بمقدار حرف أو نقطة، فهذا تفسير ابن كثير، الإنسان المسلم النسبى، لا تفسير القرآن، وذاك هو تفسير القرطبى للقرآن، لا تفسير القرآن، بمعنى أننا ننسب التفسير إلى من قام به، لا إلى القرآن حتى لو كان المفسر من الصحابة الأخيار، وكما قام الأولون بتأويل القرآن فإن لنا أن نؤوِّله على أوجه أخرى حتى دون أن نعود إلى التفاسير القديمة أو أقوال ابن عباس وابن مسعود، فهكذا فعل الإمام محمد عبده، المسألة بسيطة إذن، بل فى غاية السهولة بحيث يستطيع استيعابها الطفل الصغير، ورغم هذا ومع تمسكى برأيى فإننى أعلم أنه رأى لا أكثر ولا أقل، يرد عليه الخطأ أو الصواب.
قلت لكم إننى قلت هذا الكلام وشبيهه فى يوم هادئ فى لقاء تليفزيونى، ولكن الذى حدث بعدها لم يكن هادئاً، بل صاخباً وعصبياً، صحيح أننى لم أحفل بهجوم عصابات «الفيس وتويتر» من الإخوان والسلفيين، ولكننى ضحكت من النقد العلمى الذى كتبه أربعة من علماء الأزهر فى صحيفة سلفية عرفت فيما بعد أنهم إخوان، ومع ضحكى تعجبت من مفارقة بعض العلماء للمنهج العلمى عندما يمس الموضوع مشاعرهم حباً أو كراهية، أحدهم قال وهو ينتقد كلامى: كل إنسان له من اسمه نصيب وهذا اسمه مستمد من الخراب، وهو يريد تخريب الدين، والآخر قال: هذا جاهل يتكلم فيما لا يعرف، وهو يجهل أن علماء المسلمين كتبوا على امتداد الأزمنة مئات التفاسير للقرآن، وقال الثالث: هذا رجل غاوى شهرة وهو يُفسد فى الدين، وقال الرابع: هذا الرجل لم يدرس ولا يفهم شيئاً وكراهيته للإخوان جعلته يكره الدين!
أعود مرة أخيرة لشيخ الأزهر «المؤسسة العلمية» لأقول له هؤلاء هم من تربوا على مناهج الأزهر، مثلهم كمستشارك السابق «الطهطاوى» المحبوس حالياً على ذمة قضايا التطرُّف والإرهاب، وكعبدالرحمن البر عميد كلية أصول الدين ومفتى الشر للجماعة الإرهابية، وغيرهما من العمداء والوكلاء!
ولتعلم يا شيخنا أننى لا أنتقص من قدرك لا سمح الله فأنا أعلم من خلال إنتاجك العلمى أنك تحمل عقلية تجديدية، ولكنك تجرى لنفسك المواءمات حتى لا تصطدم بتقاليد المؤسسة التى تمثلها، لعن الله المواءمات التى تكتم العلم وتقتله.